هاتفني صديقٌ قديم، ربطتني به علاقةٌ طيبة خلال سنوات اعتقالنا في السجون الإسرائيلية، وكنت أعرفه من قبل، فقد جمعتنا سنواتُ الدراسة، وأحداثُ الإنتفاضة الفلسطينية الأولى وفعالياتها الرائعة، ولكن الأحداث توالت واشتدت فباعدت بيننا، فقد أُبعدتُ من غزة إلى جنوب لبنان، بينما استقر الحال بصديقي في دولةٍ أوروبيةٍ، بحثاً عن لجوءٍ وهجرةٍ كريمة، تقيه غوائل المستقبل، وغرائب الأيام القادمة.
اتصل بي صديقي مهنئاً بحلول عيد الأضحى المبارك، متمنياً لي السلامة، مبدياً أمله في أن نلتقي من جديد، ونعود إلى غزة حيث كنا فيها، نجري ونلعب ونرتع، لا نخاف الاحتلال، ولا نعبأ بجنوده، ولا ترهبنا كثرته، ولا تعداد جنده، ولا يخيفنا سلاحه ولا تهديده ووعيده.
تبادلتُ وصديقي التهاني، وقد سعدتُ باتصاله، وفرحتُ بكلماته، وبالعاطفة الجميلة التي أبداها، واستوقفتني ذاكرته الصادقة التي أعادتني معه إلى سني دراستنا الأولى، وأيام مقاومتنا، وليالي سجننا تحت الخيام أو خلف القضبان.
ولكن صديقي بدا حزيناً متألماً، وفي عباراته الكثير من الشكوى والأنين، فما كان بإمكانه أن يخفي حزنه، أو يستر ما تفضحه نبراتُ صوته من أسى دفين، ولا كلماته التي حرص على انتقائها لتعبر عن فرحته وسعادته، ولتظهره جذلاً سعيداً، خاصة أنه اتصل مهنئاً، في وقتٍ هو للفرحة والسعادة، ولا مكان فيه للحزن أو الألم.
قلت له يا صديقي، أنا اعرفك مذ كنا أطفالاً، فما سرني حالك، ولا خدعني سؤالك، ولا صدقتُ مخايل السعادة التي تحاول أن تظهرها، فأنت حزينٌ باكٍ، لم تتمكن أيام العيد من التسلل إلى قلبك سعادةً وفرحاً، بل كأنها أصابتك بوجع، وأيقظت فيك الألم، وصبغت وجهك فكان كالحاً، وتركت تحت عيونك سواداً، عنواناً للقلق والتعب والإرهاق.
لم أكن أعرفُ أنني قد أصبت في قلبه الهدف، ووضعت يدي على الوجع، فحررتُ لسانه المعقود، وأطلقتُ له العنان ليتحدث بما يشاء، ويقول ما يريد.
تغيرت نبرته، وخفت صوته قائلاً، نحن يا صديقي غرباء، نعيش الغربة والوحدة، لا أحد حولنا، لا أهل عندنا، ولا من يؤنس غربتنا، أو يربت على رؤوسنا ولو كنا كباراً، فالعيد بعيداً عن الأهل والأحباب محزنٌ، يثير في النفس شجوناً كثيرة، ويحرك آلاماً دفينة، بل إنه في غربتنا يولد الحزن، ويقبض القلب، ويحسر النفس، ويدمي العين بكاءً، فلا أحد يشعر بك أو معك، أو يحس بألمك وشوقك، وحنينك وحبك، فكل ما حولك غريبٌ، لا نتفق معه ولا ينسجم معنا، وما كنا قد اعتدنا عليه لا نجده، ولا يعرفه أهل هذه البلاد.
قلتُ له يا صديقي على رسلك، هون على نفسك، لا تفجعها بمزيدٍ من الحزن، فما يسكن قلوبنا من الألم كثير، وما نكابده شديد، وما نعانيه أكبر مما يحتمله الإنسان، فلنهون على أنفسنا ما أصابنا، ولنعش أيامنا، ولنصبر على ما حل بنا، فيوماً ما سنعود، وستعود إلينا كل ذكرياتنا، وماضينا الجميل.
استوقفني صديقي بحدةٍ قائلاً، كيف يمكنني أن أهون عن نفسي تباريح أحزان العيد وأنا لم أخرج من بيتي، ولم يطرق بابنا أحد، وقد اشترينا لوازم العيد وما اعتاد الناس على شرائه، وزينا البيت، وهيأناه لاستقبال الضيوف والمهنئين، ولكن أحداً لم يذق ضيافتنا، ولم يأكل من طيب ما اشترينا، وما جهزناه كان جميلاً وشهياً، مما لذ طعمه وغلا ثمنه.
أخرسني صديقي بعنفٍ فلم أدرِ ما أقول، سكتُ وكأن رصاصاته قد أصابتني، ونالت مني ما قد نالت منه، وأشعرتني بحقيقة ما يعاني ويكابد، فلم أجد ما أحدثه به، أو أخفف عنه ما يحس به، سوى أن أعترف له بحالي، وما قد أصابني في هذا العيد، فلربما ما أَلمَ بي من ألمٍ يفوق ما قد لاقى، إذ شهدتُ العيد في العام الماضي مع أهلي وأقربائي في غزة، فلا أعرف كيف مضت الأيام، وكيف انقضى الزمن بسرعة، إذ لم يكن لدي الوقت لزيارة أحد، أو استقبال ضيف، فقد غرقتُ في بحرٍ لا قعر له من الضيوف والمهنئين، وزرتُ الكثير ممن أعرف، فضلاً عن اخوتي وأخواتي وأعمامي وأخوالي وجيراني والناس كلهم.
وخلال أيام العيد الماضي نسيتُ أسرتي وبناتي، فلم أحفل بهم، ولم أسأل عنهم، فقد كفاني أعمامهم وأخوالهم وخالاتهم مؤونة رسم البسمة على شفاههم، وزرع السعادة في قلوبهم، وهن بناتي وزوجتي، وقد شعرن بقيمة قضاء العيد بين أهلن في غزة، إذ إلى جانب الفرحة قد زاد رصيدهن، وامتلأت حقائبهن، واكتنزت محافظهن من عيديات الأهل المحبين والمشتاقين لهن، وقضين في غزة رغم قصر المدة أجمل أيام عمرهن، زرن خلالها كل أرجاء القطاع على صغر مساحته، فلم أعانِ من مشكلة في الترويح عنهن، أو الخروج معهن، فقد ناب عني أهلي وأهلهن فسعدت وركنت، واطمأننت إلى أن فرحة العيد قد سكنت قلوبهن جميعاً.
أيقظني صديقي من غفلتي، ونبهني من سباتي، ففي هذا العيد قد عانيتُ أكثر منه، وواجهتُ أكثر مما واجه، فأنا لا أختلف عنه في شئ، إذ أعيش الغربة والوحدة، وأعاني من أسقام الوحشة، وإن كنتُ في بلادٍ عربية، وبين شتات شعبي، وأمثالي من اللاجئين من وطنهم، ولكني شعرتُ بحجم الفراغ الذي تركته غزة في نفسي ولدى أسرتي، فلا يملأ مكانها إلا هي، ولا يقوم مقامها سوى أهلها.
أدرك صديقي أنه قد نقل إلي عدواه، وأصابني بمرضه، وجرني إلى مربعه الحزين، ودائرته الكئيبة، فندم على ما قام به، فقلتُ له يا صديقي لا تحزن، ولا تحمل نفسك فوق ما تطيق، فأنت لم ترتكب جريمة، ولم تأتِ بجديد، فحالك هو حالي، وهو حال كل مغتربٍ ومسافر، وهو مصاب كل بعيدٍ عن أهله، غريبٍ في سربه.
ودعتُ صديقي محاولاً تخفيف آلامه التي أصابتني، ومداواة جراحه التي أدمتني، فما شكا منه صديقي كانت شكواي، وما أحزنه كان هو حبيس قلبي المكلوم، وأسير قلمي المكسور، فكل عامٍ وأنتم بخير أيها الغرباء جميعاً، وأيها المبعدون سجناً واعتقالاً، أو غربةً وترحالاً.
[email protected] بيروت في 17/10/2013