شمعةٌ ثالثة يضيئها أسرى صفقة وفاء الأحرار، وهم بين أهلهم وذويهم، وقد مَنَّ الله عليهم بالحرية، إذ أخرجهم من السجن، وجاء بهم إلى بيوتهم ومخيماتهم، مرفوعي الرؤوس، منتصبي القامة، موفوري الكرامة، بعد سنواتٍ طويلة من الغياب، ظن العدو أنها لن تنقضي، وأن من حكم عليهم بالسجن سيموتون داخله، وسيقضون حياتهم كلها بين قضبانه، ولن ينعموا يوماً بالحرية، ولن يقبلوا أبداً يد آبائهم وأمهاتهم، وأنهم سيكونون درساً لمن بعدهم، وعبرةً لغيرهم ممن قد يسير على دربهم، أو يفكر أن يكون مثلهم، ولكن الأسرى غدو أحراراً، وباتوا خارج السجون والمعتقلات، وها هم يدكون الأرض بأقدامهم، ويجوبون أرجاء الوطن رغماً عن عدوهم، ويسمعون الجوزاء أصوات شكرهم وحمدهم لله، الذي أكرمهم بالحرية ومن عليهم بالتحرير.
قد صدقت المقاومة، وبر المقاومون بوعودهم، واستنقذوا بعضاً من رجالهم وقادتهم، وأخرجوهم من عتمة السجون إلى فضاء الحرية، وأرغموا العدو الإسرائيلي على الخضوع والاستسلام، والقبول والموافقة، فنزل مكرهاً عند شروطها، ونفذ طلباتها، وهو الذي كان يكابر برفضه، ويعاند بتشدده، ولكن المقاومة كانت أكثر عناداً، وكان الشعب أكثر صبراً وعطاءً، وتحمل كلفة الأسر، وضريبة الاحتلال، فكان نصر الله الذي تنزل على عباده المكرمين، وأهله المصطفين، حريةً لأبنائهم، وفرحةً عمت نفوسهم، وملأت قلوبهم.
اليوم يحتفل الأسرى المحررون بمرور عامين على كسر قيدهم، وتحطيم الأغلال التي كانت تكبل حريتهم، ولكن بطل الصفقة ومهندسها الأول، والمفاوض الأبرز فيها، وصاحب الوعد الحاسم بتحقيقها، والذين كان يصر على إنجازها، مهما كلفت من ثمن، متحدياً إرادة الاحتلال، ومواجهاً عناده واستكباره بيقينٍ لا يلين، وعزمٍ لا يفتر، وإرادةٍ لا تنكسر.
الشهيد أحمد الجعبري قد غاب عن الميدان، وترجل عن صهوة جواده الأصهب، ولم يعد قائداً بين جنوده، ولا مقاتلاً بين المقاومين، فقد أراد العدو أن ينتقم ممن أرغمه وأذله، ومرغ أنفه بالتراب، فاغتاله غيلةً وغدراً، ونال منه بصاروخٍ حاقد، لكن المقاومة من بعده لم تنكسر ولم تضعف، ولم تخنع ولم تخضع، بل خاضت غمار معركةٍ ضاريةٍ شرسة، دكت فيها المدن الإسرائيلية بمئات الصواريخ، التي أرعبت الإسرائيليين وعلمتهم أن المقاومة حالة شعب وإرادة أمة، وأنها تصنع الرجال وتخرج القادة، فلا تسقط رايتها بشهادة قائد، أو غياب مسؤول، ولا تستسلم أمام التحديات، ولا تخضع مهما بلغت التضحيات.
الأسرى الأحرار ومعهم كل الشعب الفلسطيني يحيون هذه الأيام فرحةً مرةً، وسعادةً ناقصة، ويعيشون آمالاً كبيرة، بأن يتم الله عليهم فرحتهم، وأن يوفقهم في الإفراج عن بقية الأسرى والمعتقلين، إذ أن الفرحة مهما كانت كبيرة، فإنها تبقى ناقصة، وتطغى الغصة على النفوس عندما نتذكر أنه مازال في السجون الإسرائيلية آلاف الأسرى الفلسطينيين، ممن قد مضى على اعتقال بعضهم عشرات السنين، ممن تنتظرهم أمهاتهم، ويعيش أولادهم على أمل اللقاء بهم من جديد، ما يعني ضرورة العمل للإفراج عنهم، وتحقيق حريتهم، شأنهم في ذلك شأن أي أسيرٍ قد تم الافراج عنه، فهذه أمانةٌ ملقاة على عاتق كل حرٍ، فلسطينياً كان أو عربياً، مسؤولاً كان أو مواطناً، ليبذلوا أقصى ما يستطيعون، ليحققوا هذا الهدف الإنساني النبيل.
في الوقت الذي يحتفل فيه شعبنا بالذكرى السنوية الثانية لحرية أسراه ومعتقليه، فإن الإسرائيليين يحيون أيضاً الذكرى السنوية الثانية لعودة جنديهم الأسير جيلعاد شاليط، الذي تم أسره من على ظهر دبابته، بينما كانت فوهتها تطلق حمم نيرانها على سكان قطاع غزة، ولكن المقاومة الفلسطينية التي تمكنت من أسره، نجحت في الاحتفاظ به في أماكن سرية لعدة سنوات، ولم تنجح حروب العدو ولا عملياته الأمنية، ولا أنشطته الاستخبارية في معرفة مكانه.
اليوم يعيش الإسرائيليون حالة خوفٍ جديدة، بعد أن تأكد لديهم أن المقاومة الفلسطينية لن تتوقف عن محاولة خطف وأسر جنودٍ إسرائيليين، وأنها ستمضي إلى عمق الوطن، وستتوغل داخل صفوف العدو، وستقتحم معسكراته وثكناته، وستسعى بكل قوةٍ وجرأة لأسر المزيد من الجنود، وقد بات العدو يدرك أن إرادة المقاومة لا تنكسر، وأن هذا الشعب الحر لا ينسى أبطاله، ولا ينام عن حرية أسراه ومعتقليه، وأنه يخطط ليل نهار ليحقق أهدافه، ويصل إلى غاياته.
إنه يومٌ عظيم من أيام الشعب الفلسطيني، سيحفظه التاريخ، وسيذكره الشعب، وسيبقى عالقاً في أذهان الأسرى والمعتقلين، المحررين ومن بقي منهم في السجون والمعتقلات، فهو اليوم الذي زغردت فيه النساء، وهاهت فيه الأمهات، وعلت أصوات التهليل وصيحات التكبير، وسجد فيه الرجال، وانحنت قامة الأبطال خشوعاً، فلن ينسى الفلسطينيون يومهم المشهود، ولن يجعلوا منه يوماً يتيماً لا مثيل له، بل إنهم يعملون لتكراره، ويخططون لإنجاز مثله، ليصلوا إلى يومٍ لا يكون لدى العدو الإسرائيلي القدرة على الاحتفاظ بأي أسيرٍ فلسطيني مخافة الوقوع في الأسر، أو العيش في دوامةٍ من الرعب والخوف.
إنها سنةٌ ثالثة جديدة، يعيشها أبطالنا الأحرار، متحدين مع شعبهم، ومتفقين مع أهلهم، أعزةً في بلادهم، أقوياء بين مقاومتهم، يؤكدون أن قضية الأسرى والمعتقلين هي قضية الشعب كله، بل إنها مسؤولية الأمة بأسرها، فهي قضيةٌ توحد ولا تفرق، وتجمع ولا تشتت، عليها يجتمع الفلسطينيون ويتفقون، ولا يتفرقون ولا يختلفون، وفي سبيلها ينبغي أن تتظافر الجهود، وتتحد الإرادات، لنحقق الغاية التي نصبو إليها، ونتطلع لتحقيقها، فيا أيها المقامون أمضوا على بركة الله، وارموا باسم الله، فالله ناصركم، وهو الذي يؤيدكم، ما كان هدفكم الحرية، ومسعاكم التحرير.
[email protected] بيروت في 19/10/2013