الجغرافيا لاتحتوي كل بقاع الأرض ، فبعض المساحات تعلوا على الطين و تنحاز للسماء ، لذا لم تكن فلسطين يوماً وطناً لساكنيه دون غيرهم ، و حالة التكالب على إمتلاكها وإحتواءها من غالب الحضارات كان يؤصل بقوة مكانتها في العقول والقلوب البشرية .
والسؤال الذي يأبى الإنزواء في الزوايا ويظل مشعاً على الدوام هو من يستحق أن ينتسب لفلسطين ؟ و من الذي إحتوته فلسطين فنال شرف أن يشمله حضنها ؟، من هو الفلسطيني حقاً وصدقاً ؟ من الذي تلونت روحه بلون زيتونها و كست وجهه ضياء شمسها ؟
الفلسطينية الصادقة ليست بطاقة تعريف و لا صلة ترابية و لا حتى شعور وجداني بالحنين !
فللأسف ان أكثرية المنتمين لفلسطين لا يبحثون في فلسطين سوى عن مأوى أو وظيفة أو أي مكسب ذاتي ، حتى الذين يكثرون من حديث الحنين العاشق فأنهم لا يبقون فيها إلا بمقدار إجازة تنتهي بانتهاء آخر مأدبة غداء تقام على شرفهم ، فلسطين لهؤولاء وغيرهم الكثير ليست إلا جيباً تتصارع أيديهم داخله طمعاً في مافيه فأن خلا أو تمزق فسرعان ما ينفضون أيديهم منه مطلقين العنان لتصوراتهم الفاسدة ولألسنتهم اللعانة ، و مثل هذا الصنف الذي قد إستمد فلسطينيته من حدود الجغرافيا جبراً عنه ولو خير ما أظنه إختارها بمحض إرادته !.
ففلسطين مركز الصراع الكوني المعاصر والقضية الأصيلة الحاضرة دوماً ، ولانها أضحت فكرة و مبدأ وقيمة و عقيدة فأنها تجاوزت حد التراب المسيج .
و لكي تكون فلسطيني فيجب أن تستمد ملامحك من فلسطين و أن تجعلها نبعك الذي تستقي منه ماء الحياة ، أن تسكنها قلبك و عقلك قبل أن تسكنها .
فالفلسطيني هو الذي لم تقيده حدود المكان والزمان و حلق في السماء و انسلخ من رتقة الأرض طامحاً للعلياء لا يلتفت لتصايح المنكبين على الجيف من حوله وحاله حال بيارات فلسطين يوم أن تركها جيرانها العرب خلفهم و ألتهموا المحرم على موائد من جثم على صدرها و سحق تحت ثقله أبعاضها .
الفلسطيني لا يقبل أن يصافح بيده أو قوله أو فعله عدوه الذي داس الزهور بقدمه النجسة وأمتدت أذرعه لتعبث في كرومه و أشجاره تسقط ثماره و تنزع فروعه و مثله في ذلك مثل جدران بيته القديم الذي ما فتأ يذكره بحقه .
الفلسطيني هو من ينصهر في إنسانيته و يلفظ ذاته المثقلة فيكون مصدر خير دائم يفيض على ما حوله تماماً كالبركة التي إستوطنت مسجده الشريف وساحت منه لكل الساحات تملأها من الفيض الإلهي .
لذا لا نغالي عندما نقول أن الفوارق تتضائل بين من لا يرى في فلسطين إلا ذاته أو حزبه وبين الغريب الذي أرادها جنته التي تهبه النعيم ، إن من ينتظر من فلسطين أن تهبه وتعطيه بلا حد و يقف هو عند حدود ذاته ومصالحه لا يتقدم ولو خطوة واحدة خارج دائرة المنفعة ليس فلسطيني و لا يستحق أن يشتق نعته من إسمها فهو لم يولد من رحمها و لم يكتشف للآن سرها .
وإني أجد ريح فلسطين في كل بقاع الأرض فيمن حلم بها و عاش عذاباتها و أمل يوماً أن يفني نفسه تحت أسوارها وفي ساحاتها ، والكثير من هؤولاء لم تطأ قدمه أرضها و لا يتكلم بلغتها و لا يعرف شوارعها و لم يأكل من أشجارها و لكنه على الأقل لم يفكر يوماً في أن يجعلها سبيلاً يدر عليه المكاسب و يلقمه الأطايب و يكسوه الحرير .
وقد كانت فرية عدونا الأولى أن فلسطين أرضاً بلا شعب وقد كررت هذه الفرية حتى وجدت لها واقعاً بيننا نحن سكان أرضها والمنتسبين لها ولقد إنتمينا لأي شيء و قبلنا كل شيء إلا فلسطين فقد إستبعدناها و لفظناها و تركناها في العراء تتلقى كل اللدغات و تقاسي النكبات و ما زدنا على التباكي و التصايح نطلب من غيرنا النصرة و العون و العطاء فيما نحن نبخل عليها بما أقدرنا الله عليه من قوة ، و كانت الأعذار ميداننا الذي أبدعنا فيه كل منا يدلي بدلوه وقد غفلنا أن لا عذر للصادقين إلا دمهم .
و رسالتي إلى الذين يتركون ساحات فلسطين و يبحثون لهم عن عدو آخر و معركة أخرى أنه لا يمكن عدكم في عداد الفلسطينيين الصادقين فارجعوا للحضن الذي أنجبكم ولا تستجيبوا للمنسلخين الذين أقاموا لهم راية من قماش عدوهم و قد رضوا بأن يرتبوا أولوياتهم حسب تقويم البيت الأبيض ففلسطين لم تعد قضيتهم المركزية ولا حتى الفرعية والصهيونية لم تعد العدو رقم واحد ولا حتى رقم عشرة وأمريكيا ليست شيطاناً أكبر ولا أصغر و إلا لما دعوناها أن تقف لله و أن تنصرنا على بعضنا ، إلى هؤولاء ليس أمامكم خيارات كثر فأما أن تكونوا فلسطينين و إما أن تكونوا صهاينة فلا تخدعوا أنفسكم وغيركم بعبارات مستهلكة الشكل فارغة المضمون .
في ذكرى إستشهاد الدكتور الشهيد فتحي الشقاقي رحمه الله ، المفكر الذي نافح عن فلسطين كقضية مركزية للمسلمين وللعرب و للأحرار وأنها مركز الصراع الكوني بين الحق والباطل .
محمد حرب ، غزة ، فلسطين