ربما كنت أول من كتب حول أن الهدنة الدائمة التي تم التوصل إليها بين حماس وإسرائيل برعاية مصرية- تركية-أمريكية مشتركة عبرت عن نجاح باهر ومنقطع النظير لجهود الإدارة الأمريكية عبر تاريخها فيما يتعلق بموضوع الصراع العربي-الإسرائيلي بعد كامب ديفيد واوسلو، لأنه نتج عنها خروج او إخراج أكثر تنظيم فلسطيني راديكالية وقدرة قتالية من دائرة هذا الصراع المحتدم منذ اكثر من 65 عاماً.
النقطة الأخرى الجديرة بالإهتمام والملفتة للنظر، أنه بعكس كامب ديفيد واوسلو وما صاحبهما من تكلفة عالية على إسرائيل التي إضطرت للتنازل عن "أراضي" والتراجع جغرافياً، إلا أن أن تسوية إنهاء "الاعمال العدائية" تجاه إسرائيل من قطاع غزة (حسب نص الإتفاق نفسه) تحققت مقابل لاشيء عملياً على الأرض سوى تعهد إسرائيل بوقف الإجتياحات و "النظر" في تخفيف بعض إجراءات الحصار الإقتصادي على قطاع غزة.
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: كيف إستطاعت الإدارة الأمريكية خلق هذا الواقع الجديد على الأرض ومقابل لاشيء عملياً (لأنه إن توقفت المقاومة او "الأعمال العدائية" حسب تعبير الإتفاق من قطاع غزة، فلن تعود إسرائيل بحاجة للقيام بإجتياحات للقطاع أصلاً، يعني أن الإلتزام الإسرائيلي يعتبر تحصيل حاصل، كذلك لو لم يكن هناك مقاومة أصلاً لما كان هناك إجتياحات إسرائيلية مطلقاً )؟
مفتاح الإجابة يوجد في جيوب الوسيطان المصري والتركي اللذان إستطاعا إقناع حماس بإنهاء حالة العداء مع إسرائيل من قطاع غزة، ولا يمكن ان نجد تفسيراً منطقياً لعملية التسوية المكوكية التي تمت في أيام معدودات وبسرعة هائلة وبدون حتى التطرق للتفاصيل التي تركت مفتوحة مثل قضية جدولة او آلية رفع الحصار وغير ذلك، من غير فهم إستحقاقات الإرتباط التنظيمي بين حماس وتنظيم الإخوان العالمي والتفاهمات التي حصلت بين الإخوان والإدارة الامريكية في تلك الفترة التي سبقت وتلت وصول الإخوان للحكم في مصر.
وقد نشرت مجلة التايمز الأمريكية المقربة من دوائر صنع القرار، في تلك الفترة تقريراً مطولاً عن الإتصالات والإجتماعات التي حصلت بين قيادات من الإخوان المصريين بشكل خاص وبين الإدارة الأمريكية، وأذكر ان المجلة في حينها إستخدمت جملة "عشرات اللقاءات" للتعبير عن كثرة اللقاءات الترتيبية التي تمت بين الطرفين في تلك الفترة، والتي كان الهدف منها الوصول إلى تفاهمات وتقريب وجهات النظرحول قضايا إقليمية ومحلية تتعلق بإدارة فروع التنظيم للأمور في البلاد التي وصلوا أو قد يصلوا فيها للحكم مثل مصر وسوريا وليبيا وتونس، الخ.
لذلك، يبدوا أن الإخوان قد تفهموا وجهة النظر الأمريكية الداعية إلى إنهاء حالة العنف بين الفلسطينيين والإسرائيليين مما يمهد الطريق للوصول إلى "تسوية عادلة" "للنزاع الثنائي بين الطرفين" وهذا ما يفسر إسراعهم لإقناع حماس بالتوصل لتسوية فورية مع إسرائيل تؤدي لإنهاء فوري لحالة "العنف بين الطرفين"
ولكن هل يعني هذا أن التنظيم العالمي للإخوان قد ضحى بالقضية الفلسطينية التي ظل يتغنى بها طول عقود طويلة في سبيل تقديم لفتة حسن نية للإدارة الأمريكية تثبت إلتزام التنظيم بتفاهماته مع هذه الإدارة في ما يتعلق بالعمل المشترك لضمان أمن وإستقرار "دول المنطقة"، ولدحض إدعاءات المتخوفين على أمن إسرائيل داخل الإدارة وإثبات أنه لا يضمر شراً للدولة العبرية؟
شخصياً، أعتقد أن هذا لم يكن دافع الإخوان المصريين بشكل خاص، وإنما كان الدافع الرئيسي للوسيط "الإخواني-التركي-الذكي" الذي يسعى للتمدد في المنطقة بمعاونة حليفه "الإخواني العربي الساذج" ، والذي كان ولا يزال يهمه إزالة عقبة القضية الفلسطينية التي ظلت تشكل عائقاً مهماً أمام أية محاولة للتقريب بين الإدارات الأمريكية المختلفة وبين فروع التنظيم في المنطقة.
وطبعاً لا ننسى سعي التنظيم للحصول على دعم دولي وخاصة أمريكي أكبر لحسم المعركة في سوريا، ولذلك فإن إستمرار حالة "العنف" على الجبهة الفلسطينية والذي سيضطر قوى "المقاومة" الفلسطينية لتوطيد علاقاتها مع منظمة حزب الله وإيران، سيشكل تشويشاً على تحالف الإخوان مع المعسكر المقابل المناهض لحلف إيران-سوريا-حزب الله.
لكل هذه الأسباب كلها، كان يجب تهدئة الساحة الفلسطينية وإنهاء حالة العنف هناك وإخراج قوى "المقاومة-الإخوانية" من المعسكر الإيراني-السوري في المنطقة.
وهنا قد يتبادر إلى الذهن التساؤل التالي: وما الذي حدث عن تسمح الإدارة الأمريكية بسقوط نظام حكم الإخوان في مصر مع كل ما قدمه من لفتات حسن نية لهذه الإدارة؟ والإجابة بسيطة وهي أن امريكا لا تدعم احداً بطريقة عاطفية شرقية كما يفهمها العرب، وإنما هي مستعدة للتعامل مع شركاء جيدين، ما إستطاع هؤلاء الشركاء الإمساك بزمام الامور داخلياً في بلدانهم، أما في حالة إنفراط زمام الأمور من بين أيديهم فإن الإدارة الأمريكية ستبحث دوما عن شركاء جدد أكثر فاعلية.
كذلك هناك بعد آخر يتعلق بتضايق المحور السعودي من تزايد النفوذ القطري في الإفليم عبر إستخادم ورقة الإخوان، فجاء تدبير إسقاط مرسي في مصر لتقليم أظافر قطر في المنطقة، وهذا موضوع آخر بحاجة لمقال منفصل. والله تعالى أعلم.