منذ أسبوعين بدأت حركة حماس التمهيد للخطاب الذي ألقاه بالأمس السيد إسماعيل هنية في المبنى الأهم بقطاع غزة والذي سمي باسم الرجل الذي شيده رئيس بلديتها الأشهر "رشاد الشوا"، وهو الخطاب الذي امتد على مساحة ساعة ونصف الساعة من الزمن تنوع بين التركيز على قضايا محددة والتجاهل ربما لقضايا أخرى.
هذا الخطاب الذي يأتي بعد جهد مكثف من حركة حماس أرادت من خلاله توسيع رقعة الحوار خلال الأشهر الماضية والاستفادة من الآخرين بعد سقوط تجربة الإخوان المسلمين في القاهرة الذي وضع الحركة أمام حالة ربما الأصعب منذ انطلاقتها قبل ربع قرن.
كان هدف الحوارات الكثيرة هو البحث عن مخارج لأزمات وكان الخطاب بمجمله تعبيراً عن مجموعها، أزمة السيطرة على قطاع غزة والذي كان الحصار أحد أبرز نتائجها ..أزمة تغيرات الإقليم ونقل حركة حماس لتحالفاتها السياسية من عاصمة لأخرى ..أزمة المصالحة العالقة ..أزمة تيار الإسلام السياسي الآخذ بالانحسار في المنطقة والذي تشكل حركة حماس درته السياسية والعسكرية ويجري الحديث عن تأثير ذلك على الحركة الفلسطينية... كان محاولة لتقديم إجابات عن تساؤلات السياسة التي رسمتها الحركة وحصدت نتائجها حلوها ومرها.
قبل أسابيع اجتهدت حركة حماس وهي تبحث عن مخرج معتقدة أن أزمتها ناتجة عن التفرد بحكم قطاع غزة ومتوهمة أن الحل الذي جاء في خطاب سابق للسيد هنية أثناء اجتماع لمؤسسات المجتمع المدني الذي دعا خلاله القوى الأخرى للمشاركة في حكم القطاع، وبالتأكيد كان يقصد تحت حكم حركة حماس وضمان سيطرتها عليه. وعندما اكتشفت الحركة أن لا أحد تجاوب مع ما اعتقدت أنه الحل السحري بل أن العرض تعرض لانتقاد كبير باعتبار أن ذلك قد يؤدي لتكريس الانقسام واستمرار فصل غزة عن باقي المدن الفلسطينية شهد خطاب الأمس تراجعاً كبيراً عن تلك الدعوة نحو العودة إلى الحلول الحقيقية بعيداً عن المناورات الالتفافية وطرح حلول خارج اتفاق المصالحة ليدعو هذه المرة بشكل مباشر نحو تطبيق ما اتفق عليه الجانبان في ورقة المصالحة المصرية واتفاق الدوحة الأكثر وضوحاً والذي عارضته حركة حماس في قطاع غزة حين استدعت القانون لرفض ترؤس الرئيس عباس للحكومة ولم يبد حينها رئيس الوزراء المقال ما يعارض تلك التصريحات التي وأدت ومنعت تنفيذ الاتفاق حينها.
ولكن ما جاء في خطاب الأمس يستدعي نقاشه بموضوعية دون تقييمه على نمط أبيض أو أسود فقد قدم ردودا مهمة على قضايا أعاقت سابقاً تنفيذ المصالحة، تقدم باللغة على الأقل في رحلة المصالحة الفاشلة يحمل إيجابيات كما أنه يستدعي أيضا تساؤلات حذرة باعتبارنا اعتدنا على الخطابات التي لم تقدم في سياق مسيرة الآلام الفلسطينية الطويلة بل ساهمت أكثر في تأزيم الحالة الفلسطينية حين تركزت بمجلها على التبرير وإلقاء الكرة، كل في ملعب الآخر، ومحاولة استمالة الرأي العام للتحريض على الآخر مع التخندق في نفس المكان، فقد بالغت حركة فتح في توقعاتها حين توقعت على لسان أمين سر مجلسها الثوري أمين مقبول حسب تصريحه لإذاعة الأسرى بعد دقائق من انتهاء السيد هنية لخطابه "بأن (فتح) توقعت أن يضع هنية استقالته أمام الرئيس" ونسيت حركة فتح أن السيد هنية مقال منذ حزيران 2007 وأن المقال قانوناً لا يقدم استقالته مرة أخرى، وبالغت أنا حين توقعت أن يوجه السيد هنية دعوة للرئيس أبو مازن للحضور لغزة للبدء بتنفيذ ما اتفق عليه.
لكن الدعوة لتشكيل حكومة وحدة وتحديد موعد زمني للانتخابات يمكن أن يبنى عليها باعتبار أن تلك القضيتين هما من أعاقتا تنفيذ بنود المصالحة في آذار الماضي عندما تم الاتفاق على تزامن دخول لجنة الانتخابات المركزية لقطاع غزة مع تشكيل الحكومة، وحين لم يشكل الرئيس الحكومة وجهنا له انتقادات لعدم تنفيذه للشق المتعلق بحركة فتح إلى حين أن اتضح كما صرح رئيس وفد "فتح" للحوار عزام الأحمد أن حركة حماس هي التي طلبت تأجيل تشكيل الحكومة نهاية آذار الماضي ولم تسمع ما ينفي من "حماس".
أما البند الآخر وهو الخلاف على موعد الانتخابات والذي كانت تطالب "حماس" بفترة زمنية أطول تمتد لعام وسط هذه الأزمة وكأننا نملك ما يكفي من ترف الوقت فيما كانت حركة فتح تطالب بحكومة لمدة ثلاثة أشهر تنتهي بانتخابات وكان التوافق بعيداً.
الآن ماذا نفهم من الخطاب الذي بدا توافقياً في موضوع المصالحة وهناك تساؤلات مكملة لا بد من الإجابة عنها، الأول: هل تخول حركة حماس الرئيس تشكيل الحكومة دون خلاف على الأسماء أو المدة الزمنية لاستمرار عملها أو خلاف قانوني على النمط الذي شهدناه من بعض الأصوات المؤثرة سابقاً بغزة؟.
الثاني: هل وافقت حركة حماس على المدة التي كان يقترحها الرئيس حتى إجراء الانتخابات أم أن تلك النقطة التي كانت محل خلاف تستدعي مفاوضات جديدة مع تفاصيل الحكومة لندخل في حوار جديد من النوع الذي اعتدنا عليه، الحوارات التي لا نهاية لها؟.
الثالث: هل يجري الحديث عن صفقة كاملة بين انتخابات السلطة الممكنة والمنظمة المستحيلة خصوصاً في سورية، هذا يعني أن أي عقدة يمكن أن تشل الصفقة كاملة وهي وصفة جيدة لتأبيد القائم فما هو ممكن يمكن تنفيذه إلا إذا ربط بما هو غير ممكن مع رغبة كل الفلسطينيين بصفقة واحدة تعيد بناء النظام السياسي الفلسطيني بكل مؤسساته وأولها إعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية وإخراجها من حالة الترهل والشلل لكن الخوف أن ذلك يحتاج لوقت فهل تحررنا من صفقة الرزمة الواحدة؟.
هذه تساؤلات راقبنا كيف أن إجاباتها كانت وراء تعطيل تنفيذ الاتفاق ولكن هذه المرة ذهب السيد هنية أبعد حين طالب بتحديد سقف زمني بما ينهي مرحلة الحوارات المفتوحة والتي نزعت ثقة المواطن بها، أما ما جاء في الخطاب حول التفاهم على البرنامج الوطني يمكن الاعتقاد أنه غير ممكن لسببين، الأول أنه جرى الاتفاق على ذلك البرنامج الذي سمي ببرنامج الوفاق الوطني الذي تمت صياغته في مطبخ مشترك لـ"فتح" و"حماس"، والمسألة الثانية أن أي برنامج وفقاً للأصول يكون حسب الإجماع الشعبي فالناس هم من يقررون برنامجهم وإلا وضعت الفصائل نفسها بديلاً عن الشعب وفي هذا خلل في مبادئ الحكم فدعونا نذهب للصندوق بعد عرض الفصائل لبرامجها وبعد الانتخابات ومعرفة التوازنات يمكن صياغة البرنامج ارتباطاً بها.
البعض يقول، إن الخطاب جزء من المناورات التي اتبعتها حركة حماس خلال السنوات الماضية والبعض يعتبر أن "حماس" تمر بأزمة والخطاب يأتي بعد جملة مشاورات حقيقية وهي تريد النزول عن الشجرة وتنتظر من يأخذ بيدها وما بين هذا وذاك فإن السياسة لا تتم قراءتها بالنوايا بل هي ابنة الواقع، ومعرفة ماذا تريد "حماس" لا يتم إلا من خلال حوار مباشر معها ومرتبط بسقف زمني محدد كما قال السيد هنية، حوار تدرك "حماس" بدايته أن حسمها عسكرياً للخلاف مع شركاء الوطن هو من أوقعنا في هذه الورطة ولو تصرفت وفقاً للنصيحة التي تسديها للدول العربية حالياً بحسم خلافاتها بعيداً عن القوة لما غرقنا حتى اللحظة بالبحث عن حل.