عندما تسمع أو تقرأ كلمة "الربيع" يتبادر إلى الذهن الصورة الجميلة للطبيعة، حيث الأرض المفروشة بالبساط الأخضر، والمزينة بالورود والزهور من شتى الأشكال والألوان، وجداول المياه الرقراقة الجارية، وزقزقة العصافير، وشدو البلابل، ونسيم الهواء العليل، واعتدال حرارة الجو. وقد أطلق على ثورات الجماهير العربية اسم "ثورات الربيع العربي" تيمنا بتلك الصورة الجمالية البديعة؛ لأنه يفترض أن تنقل المجتمعات العربية الثائرة من أنظمة ديكتاتورية ـ تسلطية، تقمع الحريات، وتكمم الأفواه، إلى أنظمة شرعية ديمقراطية، تحترم حقوق الإنسان، وتبيّض السجون من المعتقلين السياسيين، وتقلص من حجم البطالة، وتحارب الأمية، وتخفف من حدة المشكلات الاجتماعية التي لا حد لها.
لقد استبشر الجميع خيرا بالثورات العربية، فظهرت النخب السياسية، والمثقفين، والخبراء الإستراتيجيين، والمحللين النفسيين، والمفكرين الاجتماعيين على الفضائيات والإذاعات، فضلا عن عقد الندوات، والمحاضرات، والورش. إلى جانب الدعاة وخطباء المنابر. جلهم يشيدون ويمدحون الثورات، ويحللون ويفسرون الثورات من كافة جوانبها انطلاقا من رؤى أيديولوجية مختلفة. على اعتبار أنها تمثل محطة تاريخية فارقة في التاريخ العربي المعاصر؛ لأنها ستنقلهم من عصر ظلامي سوداوي إلى عصر نوراني مشرق، تنقلهم من عصر الذل والخنوع والانقياد إلى عصر الانفتاح والحرية والاستقلال.
وكان الدور الأبرز في تلك الثورات لشريحة الشباب ـ الذين ولد أغلبهم مع ميلاد الأنظمة الديكتاتورية في مجتمعاتهم ـ، بمعنى أنهم رضعوا ثقافة القمع والخنوع والاستسلام ـ كما يرضعون الحليب من أثداء أمهاتهم ـ، وحرموا من مجرد الحديث في موضوعات السياسة جهرا، أو الإعلان عن حالة التذمر والسخط على الواقع الاجتماعي المرير الذي يعيشونه وضرورة تغييره، والرضا بالقليل حفاظا على الحد الأدنى من الكرامة الإنسانية ـ إن بقيت كرامة ـ. فاعتُبِرَت قيادة الشباب ومشاركتهم الفاعلة في إدارة وتوجيه أحداث الثورة هو انعكاس لحالة النضج والوعي الاجتماعي والسياسي لديهم، وأن هذه المشاركة تمثل رفضا وتمردا على الواقع الاجتماعي المزري الذي تعيشه مجتمعاتهم لعقود. لكن بعد ثلاث سنوات من انطلاقة الشرارة الأولى لأول ثورة جماهيرية في (تونس) مرورا بمصر، وليبيا، واليمن، انتهاء بسوريا ـ التي لا زال نهر الدم يتدفق فيها ولم يجف بعد ـ، تبيّن أن الأمر على خلاف ما ذكر سابقا تماما. فما ظنناه ربيعا عربيا فإذا هو خريف عربي بامتياز ـ حيث العنف والعنف المضاد، والفوضى التي عمت كافة أنحاء البلاد، وتراجع المنظومة الاقتصادية، وتدمير ونهب المؤسسات، وتعطيل حركة الحياة اليومية، وإراقة الدماء والاستهانة بروح البشر ـ. وما ظنناه شبابا واعيا وناضجا سياسيا واجتماعيا يقود الثورة فإذا هو مزيف الوعي، ويقاد كالقطعان من قبل الآخرين، لا يدري ماذا يريد؟ ولا إلى أين سينتهي به المطاف؟، ولا يحسنون اختيار الأسلوب الذي يوصلهم إلى ما يريدون! وقد بدا الأمر واضحا جليا في الثورة المصرية أكثر من غيرها من الثورات العربية الأخرى.
جميع الثورات العربية بدأت جماهيرية نقية، ترفع شعارات تعكس حجم المشكلات والمعاناة التي تعاني منها الجماهير في مجتمعاتها، ـ وهي متشابهة في جميع الثورات العربية ـ، ويرفعون مطالب شرعية كفلتها لها دساتير بلادهم وليست بدعا من عندهم. لكن التأييد والتعاطف مع الثورات من قِبَل الحركات السياسية والاجتماعية، وجماعات المعارضة، ومؤسسات المجتمع المدني في الغالب جاء متأخرا. بمعنى آخر، أن الجماهير كانت أكثر جرأة وشجاعة من الجماعات التي تدعي دفاعها عن مصالح وحقوق الجماهير! وتبرر ذلك التأخر تحليها بالعقلانية والموضوعية، ودراسة الواقع بتأن وعدم التسرع في إطلاق الأحكام، وعدم الانجرار وراء حركات شبابية طائشة وغير مدروسة... إلخ من التبريرات. وعندما تقدمت الثورات، وأصبحت تحقق أشياء ملموسة على الأرض ـ بفضل صمودهم وتضحياتهم ـ يأتي من يلتف على ـ ولا يلتف حول ـ تلك الإنجازات، ويأخذها على طبق من ذهب، ثم يدعي أنه من منظّري الثورة الأوائل، ويحدثنا عن تنبؤاته الإستشرافية، وتحقق توقعاته التي توقعها من سنوات، ومن ثم يوجهها حيث يريد هو، والذي ساعد على ذلك عدم وجود هيئة قيادية موحدة للثوار، وغياب التخطيط والتنسيق، وعدم التفكير فيما بعد سقوط النظام. وقد بدا ذلك واضحا في موقف "الإخوان المسلمين" من الثورة المصرية. فهم لم يؤيدوا الثورة مبكرا، بل تلكئوا وترددوا كثيرا قبل التأييد والتبني، ودفع عناصرهم للشوارع للمشاركة في فعاليات الثورة، وظلوا يرقبون الوضع عن بُعد، بل كانت لهم إسهامات لتطويق ومحاصرة أحداث الثورة في بداياتها، وتقديم حلول وعروض سياسية جزئية وهزيلة مع نظام مبارك، وفتح قنوات حوار مع "عمر سليمان". لكن مع تسارع الأحداث، جعلهم يحجمون عن عروضهم السابقة، وينزلون بكل ثقلهم ليحركوا الشارع ويقودوا الثورة بحكم كثرتهم العددية، وبلاغتهم الكلامية، وقدرتهم على شرعنة القضايا.
أما الثورات العربية الأخرى كـ(تونس، وليبيا) فإن الذي قطف ثمارها ليست قيادات الداخل، بل قطفها قيادات المعارضة ـ الديكور ـ في الخارج، الذين كانوا ينظّرون للثورة من مكاتبهم المكيفة، والعيش الرغيد، والحياة الهنيئة، والكلمات الرنانة، والشعارات الكبيرة، والانفعالات (المصطنعة) على الفضائيات التي لم تكن تجاوز حناجرهم.
خلاصة القول: كل الثورات العربية بدأت بمطالب نقية ومشروعة، وبعد تقديم الكثير من التضحيات، والقتلى، والإصابات، والإعاقات، والاعتقالات يأتي من يجني الثمر بكل أريحية سواء من معارضة الداخل أو الخارج ـ وتسمية المعارضة هو تجاوزا؛ لأنه لا توجد أحزاب معارضة حقيقية في المجتمعات العربية، إنما هي أحزاب ديكور ـ.
المطلب الرئيسي لكل الثورات العربية هو: (إسقاط نظام الحكم)، وبعد السقوط ـ بما أن الثوار الشباب ليس لهم مخطط يهتدون به ـ تأتي قوى أخرى لترتب إدارة البلاد، وفي الغالب يستثنون ويهمشون. وفي كل المجتمعات العربية الثائرة بعد إجراء أول انتخابات نتيجة سقوط الحكم كانت جماعة الإخوان المسلمين وأذرعها بمسمياتها المختلفة تحقق مكاسب انتخابية عالية. وبعد وصولهم للحكم تبدأ موجة من الثورات المضادة، والاحتجاجات التي تعرقل أدائهم في إدارة البلاد. (هم.. هم الذين أسقطوا الرئيس الديكتاتوري، يسعون لإسقاط الرئيس الذين أتوا به عن طريق الانتخابات!).
المنطق والعقل يقولان: أعطوا الرئيس الجديد فرصة كافية في الحكم وإدارة البلاد، قبل إطلاق الأحكام على سياساته بالقبول أو الرفض. (امنحوهم على الأقل الفترة البرلمانية والرئاسية المنصوص عليها في الدستور). من غير المعقول أن يكون السكوت، والصبر على الأنظمة السابقة لعقود. ولم يتم الصبر، والانتظار، والمراقبة، والمتابعة لفترة رئاسية وبرلمانية واحدة للرئيس الجديد! السؤال الذي يطرح نفسه: كيف تثور على من اخترته قبل أن تختبره؟ وكيف تتعجل الحكم عليه قبل أن يستوطن في الحكم بعد؟! وكيف تطالب بتغيير سنوات متراكمة من الفساد المركز بين عشية وضحاها وتأمل أن تجنِ ثمرها على جناح السرعة؟!
تلك الحالة من الثورة والثورة المضادة تؤكد عدم تحقق النضج الاجتماعي والسياسي الكافي عند شباب الثورة، فهم أصبحوا مجرد دمى مثل: "عرائس المسرح" تحركهم جهات مَنْ لم يرضوا بنتائج الخيار الديمقراطي ـ الذي طالما تغنوا به وطالبوا بتطبيقه على الواقع ـ.
إن أغلب الثوار (العوام) لا يعرفون ما لهم من حقوق وما عليهم من واجبات، فضلا عن غياب التخطيط، فهم يتبعون خط سير فوضوي عشوائي أوصلهم إلى ما هم عليه الآن من التهلكة والتهميش. وخير مثال على ذلك شباب الثورة المصرية، الذين شعروا بالتهميش والتجاهل وغياب حقوقهم، فشكلوا ما يسمى بـ(حركة تمرد)، فطالبوا بإسقاط حكم مرسي ـ الذين أتوا به بالانتخابات ـ، وخاضت البلاد موجة من العنف وإراقة الدماء، وتحقق لهم ما يريدون، فوصل السيسي ـ الحاكم الفعلي للبلاد، رغم وجود الرئيس الشكلي ـ. بعدها أرادوا (حركة تمرد) التمرد على السيسي احتجاجا على قرار القضاء (الإفراج عن مبارك)، فقمعهم، فخنسوا، ولو سمح لهم لاستمرت موجات الاعتصامات الفوضوية.
من قبل نادوا بإسقاط حكم العسكر (نظام مبارك)، والآن يطالبون بترشح السيسي لانتخابات الرئاسة المقبلة، أليس هو من العسكر بل على قمة الهرم العسكري؟! ما هذا التناقض في الفكر والممارسة! إذن هم لا يعرفون ماذا يريدون؟ ولا إلى أين يتجهون؟. إنما استهوتهم فكرة المليونيات، والاعتصامات في الميادين العامة، والإضرابات، وجمع التوقيعات. ربما اتخذوا تلك الوسائل وسيلة لشغل وقت فراغهم فجلهم من العاطلين عن العمل، الذين ينامون في نهارهم ويسهرون في ليلهم!
والذي أراه أن الشعوب العربية استعذبت شعور وحياة الذل والاستعباد، ولم يرْق لهم طعم الحرية التي تذوقوها خطئا فحولوها إلى فوضى دمرت العباد والبلاد وأرجعتهم إلى الوراء لعقود. كما أن ما تسمى بجماعات المعارضة لا تصلح إلا للمعارضة فقط، حيث الجعجعة الصوتية والاقتتال الكلامي دون فعل ملموس على الأرض، ورفع شعارات يوتوبية كبيرة لا تتمتع بصلاحية التطبيق على الواقع، كما أنها لا تصلح للممارسة الفعلية للحكم. إن الكل المجتمعي العربي يحتاج لإعادة تأهيل سياسي، وديمقراطي، واجتماعي، ونفسي للعمل بالروح الكلية، وليس بمنظور حزبي ضيق أحادي النظرة؛ لنقل المجتمعات من عهد إلى عهد، وإلا ستستمر موجات العنف والثورات المضادة إلى أجل غير مسمى، وتسير في نفق مظلم لا تُعرف نهايته، ولن يُر له بارقة أمل. والكل ـ دون استثناء ـ خاسر جراء تلك الفوضى، ولا يستفيد منها ـ سواء بشكل مباشر أو غير مباشر ـ إلا أعداء الأمة!!
وبرؤية أعمق، فإن المجتمعات والأجيال العربية الحالية لا تصلح وغير مؤهلة أن تنتقل فجأة لتعيش في بيئة ذات أجواء حرية وديمقراطية بعد عقود من الانقياد كالقطيع والخنوع والذل والاستكانة. إنما تحتاج لتغيير جيل بأكمله يتربى تدريجيا على مفاهيم وقيم الحرية، والديمقراطية، والعدالة الاجتماعية، والمساهمة في التنمية الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، والعمل بروح الجماعة، وتنمية الحس الوطني وتقديمه على الحس الحزبي والشخصاني، واحترام الرأي الآخر، ومحاربة الروح السلبية التي تستوطن في نفوس الكثيرين. والجيل كما حدده "بن خلدون" عمره أربعون سنة، كما استوحاه من القرآن الكريم من فترة تيه بني إسرائيل في صحراء سيناء. وكانت الحكمة الإلهية من هذا التيه تغيير جيل الذل والهوان الذي تربى على القيم السلبية في العهد الفرعوني، وتكوين جيل جديد يتربى على قيم العز والحرية، وبالتالي يكونون قد نسوا القيم السلبية التي تربى عليها أسلافهم. وكذلك الشعوب العربية تحتاج لتغيير جيل كامل ممن تربوا على الخوف والهوان على عهد الأنظمة الديكتاتورية لتكوين جيل عربي جديد يتربى على قيم الحرية والاستقلالية، ليقود عمليات التنمية الشاملة والتطور والتقدم، لكن هذا الجيل المنتظر لا يحتاج لتيه في صحارى كتيه بني إسرائيل، إنما يكفيهم التيه في مجتمعاتهم فهي تعيش في ظروف تجعل الحليم حيرانا.
وإن كان هناك علماء اجتماع عرب نقديين وحقيقيين وجادين لابد أن يكون لهم الدور الرائد والبارز في قيادة عمليات الإصلاح والتغيير الاجتماعي. ـ إلا أن الواقع الاجتماعي يقول غير ذلك ـ، فأغلب علماء الاجتماع العرب إما وظيفيين محافظين، أو ماركسيين متطرفين ـ رغم فشل النظرية الماركسية ـ، أو ليس لهم توجه فكري أصلا إنما حصلوا على الشهادات العليا بسبب انتشار فيروس الشهادات العليا في الجامعات العربية لأجل المظاهر الاجتماعية، ولم يقدموا لعلمهم ما ينقله نقلة نوعية يخدم مجتمعاتهم. إننا نحتاج لعلم اجتماع عربي وجهود فكرية بنكهة عربية خالصة، فضلا عن الجهود العلمية الأخرى المساندة ليساهم كل في تخصصه وحدود مقدرته للانتقال بأحوال المجتمع العربي من حال سيء لحال أحسن، حينها نستطيع أن نتحدث عن ربيع عربي مزهر ومشرق، وليس كالربيع الزائف الذي نعيشه اليوم، ـ فهو شبيه بالمعدات التكنولوجية الصينية التقليدية التي لا تعمّر كثيرا ـ، ولا تتمتع المجتمعات الثائرة بنكهة ربيعها الزائف إلا أياما معدودة حتى تدخل في موجة من العنف وعدم الاستقرار.
أ/ بسام أبو عليان
20/10/2013م