الحراك الشعبي الذي بدأ في تونس وإنتقل لعدة دول عربية فيما عرف بمسمى الثورات أو "الربيع العربي" لم يعد ينظر له سوى من منطلقات تآمرية دولية وإقليمية أكثر من أي شيء آخر...فمنظر الملايين في الشوارع الذي ألهب قلوب الشعوب العربية إختصر بمفهوم الأسلمة السياسية وعلاقاتهم بالغرب، وبالعنف الدموي الذي يمارس في هذه الدول ووصل لحد إرتكاب هذه المجموعات المسلحة جرائم حرب وممارسات يندى لها الجبين.
أذكر قبل سنتين أنني جلست مع بعض النخب المتحمسة لهذه التحركات...والتي رأت أنه على المستوى الإستراتيجي بما يحدث وكأنه إنتصار للقضية الفلسطينية، حيث أن الحرية والديمقراطية بالتأكيد سوف تصب إستراتيجيا لصالح الشعب الفلسطيني...شخصيا لم أتحمس كثيرا لبعض هذه التحركات خاصة في سوريا، وتخوفت من سيطرة تنظيم الإخوان المسلمين على مصر بإعتبار أن هذا التنظيم يبيح بإسم الدين والشريعه محظورات تؤدي لخلط الأوراق في المنطقة بما يؤسس لحرب طائفية ومذهبية في سبيل الحفاظ على السلطة...هذا ما حدث وعبر عنه علنيا بعد سنة من خطفهم للحكم في مصر بإسم الديمقراطية، فدعا رئيسهم المعزول للحرب على سوريا وبطريقة مذهبية فظيعه، وأكثر من ذلك أبقى على الوضع الإقتصادي كما هو وبإسم الدين والتجارة "الشاطرية" الزبائنية المرتبطه ببعض دول الريع العربي من "محطات البنزين".
يومها قلت لهذه النخب أن هذا الحراك سوف تفشله سوريا، وأنه لن ينجح في قلب نظام الحكم في الشام، بل إن إحدى نتائجه ستكون قلب الموازين في المنطقه، وقد تعجب البعض من ذلك وأصر على أن سوريا كباقي تلك الدول ستسقط وحددوا موعد السقوط ببداية سنة 2012، لكن أحدهم سألني: لماذا تستثني سوريا؟ تذكرت الكاتب الفلسطيني الشهيد غسان كنفاني حين قال: "خيمة عن خيمة بتفرق" فقلت له حلف عن حلف بيفرق، فالمتحالفين مع أمريكيا سوف تتخلى عنهم أمريكيا في لحظة قناعاتها بأن القادم سيكون معها، وسيكون تبرير التخلي بإسم الديمقراطية والوقوف مع الشعوب، في حين حلفاء سوريا هم حلفاء إستراتيجيون ولن يتخلوا عنها حتى لو وصلت المنطقة ككل للتفجير إن لم يكن العالم...فسوريا بمركزها الجيوسياسي ممنوع عليها السقوط لصالح التيار الإمريكي في المنطقة حتى لو أراد النظام التخلي عن المواجهة فلن يسمح له حلفاؤه بذلك فكيف حين يستأسد الأسد وجيش سوريا في الدفاع عن سوريا.
سنتان ونصف وسوريا صمدت أمام أكبر حرب ومؤامرة في التاريخ، وكان للحلفاء الدوليين "روسيا والصين" والحلفاء الإقليمين "إيران وحزب الله" دور أساسي في صمود سوريا عسكريا وإقتصاديا، هذا الصمود دفع الجيش المصري لقراءة الواقع جيدا بما يتعلق بالمخاطر التي تتعرض لها مصر من قبل تيار الإخوان المسلمين، فوقف بلا تردد مرة أخرى إلى جانب الملايين من جماهيره وأعاد مصر لحضن العروبه بعد أن كادت تخطف لصالح العثماني بتحالف واضح لا لبس فيه مع الإدارة الأمريكية، في حين لا يزال المخاض مستمر في تونس والصراع لم يحسم بعد هناك وإن كان مشهده أقل دموية من غيره ولكن إرهاصاته تظهر في إرهاب أنصار الشريعه وإرسال التكفيريين إلى سوريا بتمويل قطري وسعودي وتحت أعين حزب "النهضة" الحاكم، اما ليبيا فحدث ولا حرج، إمارات وإقتتال، وخطف وقتل وتصدير السلاح والتكفيريين.
ما حدث خلال الفترة البسيطة الماضية خاصة في الملف السوري يؤكد على ان المنطقة بحاجة لإعادة مراجعة شاملة ليس فقط لمنهج وطريق هذه الثورات، بل مراجعة شاملة للتاريخ الإسلامي بقراءة جديدة تشمل طبيعة النظام السياسي وحيثيات ما حدث من فتن، وإعادة الإعتبار لمفهوم العدل الإجتماعي الحد الأكبر في الإسلام وما يعنيه ذلك من نظام يستند للتسامح والعدل ودستور يؤسس لدول مدنية تعطي الكل الفردي والجمعي، المسلم والمسيحي، السني والشيعي والعلوي والدرزي، العربي والتركماني والكردي والشركسي، نفس الحقوق ونفس الواجبات، فلا مكان لمن يدعو لتكفير الآخر بل معاقبته بالسجن ومحاربته فكريا، ولا مكان لنفي وجود الآخر وحقوقه، بل محاربة كل من يحاول حتى مجرد التحريض الديني على الآخر.
الواقع العربي بحاجة لمفهوم المواطنة أكثر من غيره من المفاهيم، ومحاولات الهروب من ذلك تحت يافطة الدين لم ولن يكتب لها النجاح لأن من يمثلها أحزاب تخطف الإسلام وتستند لفكر إقصائي للغير وللإسلامي الذي لا يحمل نفس فكر ذاك الحزب، فلا سلفية ولا وهابية ولا إخونجية ولا تحريرية ولا تكفيرية ولا قاعدية ولا أنصار شريعة ولا كتائب لا تعد ولا تحصى في سوريا، يمكن أن تؤسس لدولة المواطنة، حيث هناك شريعه إسلامية وفقه إسلامي ولا يوجد شريعه او فقه إخونجي أو سلفي او وهابي او غيره، وفقه الإسلام بحاجة لإعادة مراجعة ليواكب العصر ومفهوم المواطنة وهو كذلك، بل هو أقرب لذلك من كل الذين يدّعون حمل لواءه، وهذا لن يتم إلا بعد أن يتجرأ المفكريين والنخب لفتح كل الملفات والحديث عنها بمفهوم فكري لا بمفهوم التجريح والذم...الجماهير العربية تريد تعليم مجاني صحة جيده مجانية او رمزية عبر مشاريع تأمين صحي لا يميز بين غني وفقير وبمستشفيات متقدمة، الشعوب تريد ان تعمل وأن تحصل على أجور الحد الأدنى للمعيشه مرتبطة بقيمة الغلاء، ولا تريد أن تسمع خطابات دينية مُخدرة توعدهم بالجنة للهروب من الدنيا، الجماهير تريد بعضا من الجنة على الأرض، فالجنة ليست للفقراء والحياة للأغنياء، وأكذوبة السلاطين بدس حديث بإسم رسول الله أبو القاسم محمد صلوات الله عليه وسلم ب "أن أكثر أهل الجنة من أمتي من الفقراء" او "يدخل الفقراء الجنة قبل الأغنياء" هي محاولة لتخدير عامة الناس وإعتبار الفقر وكأنه قدر من الله وعلى الشعوب المسلمة القبول به وإنتظار صدقات الأغنياء حتى يأخذوا بركة وحسنات أكثر، في حين الإسلام يحث على العدل الإجتماعي وان لا فرق بين عربي وأعجمي إلا بالتقوى، وأن المسلميين متساوين كأسنان المشط، وهنا نتذكر قول الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه "قلب الأحمق وراء لسانه" كما ويقول الصحابي الجليل أبو ذر الغفاري رضي الله عنه " إذا ذهب الفقر إلى بلد قال له الكفر: خذني معك". صدق الإمام وأبو ذر، فالعدل والمواطنة والتسامح أساس لنجاح الديمقراطية، لا الشعارات الدينية التي تستخدم لتخدير الشعوب وجرهم للفتن والإقتتال، وما حدث حتى الآن يعبر وبوضوح عن أزمة الإسلام السياسي الذي نقله للحراك الشعبي ففجره وحوله عن غير أهدافه.