أخذ صديقي يشرح كيف يصنع فنجان قهوته؟ يغلي القهوة في وعاء كبير، ثم يتركه قليلاً كي تأخذ بقايا حبيبات القهوة طريقها إلى أسفل الإناء، يصب القهوة في زجاجة ويودعها في الثلاجة، وكلما أراد أن يصنع فنجاناً من القهوة أخذ القليل من القهوة المبردة، وأضاف عليه القليل من البن وأعاد غليها من جديد، يقول إن طريقته في صناعة قهوته من الأشياء الثمينة التي ورثها عن أبيه، وكي يحافظ على خصوصيتها يضع اسم العائلة ملاصقاً لفنجان القهوة، لا يتوقف صديقي عند هذا الحد في حكايته مع فنجان قهوته، بل يسترسل في وصف الطقوس التي يجب أن ترافق صناعتها، ومواصفات الفنجان الملائم لها، ولصديقي فنجانه الخاص الذي لا يشركه مع فناجين العامة لديه، وينتهي به المطاف ليضع اشتراطاته الواجب توفرها حين احتساء القهوة، بعد أن استفاض صديقي في غزل فنجان قهوته، قال مبتسماً، وكأنه ينكر علي دهشتي، ألم يقل شاعرنا الكبيرمحمود درويش لكل بيت قهوته.
قلت لصديقي ليس فقط لكل بيت قهوته، بل لكل دولة ايضاً قهوتها، هنالك العربية والتركية والأميركية والانجليزية والايطالية والفرنسية، وكل منها تصنعها بطريقتها الخاصة، وأردت أن أشارك صديقي اعتزازه بما ورثه عن أبيه في فنجان قهوته، مستلهماً ما كان يفعله "بيتهوفن"، حيث كان يبدأ يومه بحصي 60 حبة من البن ليصنع منها قهوته اليومية، ولا أعرف سر العدد الذي اختاره بيتهوفن، لكن المؤكد أن له ارتباطا بشيء أخفاه بيتهوفن ولم يفصح حتى لصديقته عنه، خاصة أنه لم يحد عنه يوما ما، وكي لا اخرج صديقي من مشهد غزله لفنجان قهوته، قلت له ان مذاق فنجان القهوة الذي تصنعه بيدك يختلف عما ياتيك من صناعة الغير، هو كالفارق بين مذاق الطعام المنزلي والوجبات السريعة.
قد يكون للعادة دورها في تفاصيل حياتنا، نتبعها دون أن نكلف أنفسنا عناء الامعان بها، فنحن نستحضر فنجان القهوة اذا ما أردنا أن نحصل على قليل من التركيز، أو رغبنا في إفساح المجال للتفكير، وكأن فنجان القهوة يمتلك مفاتيح العقل، رغم أن الدراسات العلمية أكدت عدم صحة ذلك، وهذا ما نجده في أصل الكلمة، حيث كلمة قهوة عند العرب جاء مبكراً على اكتشاف البن، وكانت من ضمن أسماء الخمر، ويقال إن التسمية جاءت من فعل قها، وقها في اللغة العربية تعني ما يقلل الشهية، على أي حال لا ينكر أحد الجذور العربية في اكتشاف البن، بل ان القهوة المخلوطة بالشيكولاته "CaffeMocha " المتداولة في دول الغرب جاءت من اسم ميناء يمني "مخا" كان يصدر منه البن للغرب.
لقد تحولت بعض شركات القهوة إلى امبراطوريات كبيرة تنتشر في دول العالم، لكن الطريف منها أن شركة جنوب افريقية لجأت إلى حيلة مبتكرة للترويج لمنتجها، وهي أن يتثاءب المرء أمام ماكينة اعدادها لتدر عليه فنجان من القهوة، دون الحاجة لاتباع ما ورثه صديقي عن ابيه تماشياً مع زمن الوجبات السريعة.