إنها محاكاةٌ لألعاب الأطفال البريئة، التي يقضي الأطفال عمرهم وهم يحلمون باقتنائها، أو سعداء وهم يلعبون بها، يباهون بها غيرهم، ويشاكسون بها أصدقاءهم، لكنها محاكاةٌ بشعةٌ بروحٍ شريرة قاتلة، خبيثة ماكرة، غادرة حاقدة، لا تعرف الرحمة، ولا مكان فيها لبرائة وطهر الأطفال، فهي آخر مبتكرات وسائل القتل الأمريكية والإسرائيلية، فهم يقتلون بها من بُعدٍ، ومن عَلٍ، فلا يرون الضحية إلا شبحاً يتحرك، وظلالاً تمشي، وعلامةً مميزة تظهر على شاشات الكمبيوتر لديهم، فلا يفرقون بينها وبين أبرياء آخرين قد يتواجدون في المكان، ولا يسألون إن كان هذا هو الهدف المطلوب أم لا.
إنه قتلٌ جبانٌ، وفعلٌ خسيسٌ مدان، لا بطولة فيه ولا رجولة، ولا جرأة ولا تحدي، إذ يقوم جنودٌ مختصون، وربما مخصيون، لا شئ فيهم من الرجال، فضلاً عن مشاركة مجنداتٍ لا يتقن من فنون القتال شيئاً، يجلسون في غرفٍ بعيدة عشرات الكيلومترات وربما أكثر عن الأهداف المقصودة، يقومون بمتابعة الهدف الضحية، وملاحقته من خلال الصور التي تنقلها الأقمار الصناعية المنتشرة في الفضاء الخارجي، التي تراقب وتسجل وتتجسس، وتتابع وتلاحق وتنقل الصور والبيانات، وتحدد الأماكن والاحداثيات، فما إن يقع الهدف تحت أنظارهم، وفي مرمى نيران طائراتهم التي تحلق في السماء، وهي طائراتٌ حديثة بلا طيار، مزودة بأحدث أجهزة المتابعة والمراقبة والتصوير، وتحمل صواريخ دقيقة وفاعلة، تطلقها على أهدافها المرصودة، فتقتل وتدمر وتخرب، في الوقت الذي يكون فيه المنفذون يلعبون ويلهون، وربما يتبادلون القبلات والتهاني، قبل أن يجمعوا أمتعتهم، ويغلقوا حواسيبهم، ويحملوا حقائبهم فوق ظهورهم، ويعودوا أدراجهم إلى بيوتهم، بعد أن نجحوا في مهمتهم، وقتلوا الأشخاص المطلوبين، وغيرهم من المرافقين والمتواجدين في المكان.
إنها تقنيةٌ أمريكية، ولكنها أضحت بعد ذلك خبرةً وصناعةً إسرائيلية رائجة، تصنعها لنفسها، وتستخدمها في محاربة أعدائها، وقتل خصومها، وتصدر منها كمياتٍ كبيرة إلى دولٍ ترتبط معها باتفاقيات تعاونٍ عسكري، وتبادل خبرات قتالية، فتجربها في بلادٍ بعيدة، وعلى أهدافٍ كثيرة، ومن أماكن قصيةٍ وعالية، كيما تعيد تطويرها وتحسينها، لتصبح أقدر على القتل، وأبلغ في الفتك والدمار، وقد أثبتت فعاليتها بقوة في فلسطين المحتلة، إذ قتل الإسرائيليون بواسطتها عشرات المطلوبين الفلسطينيين، ولعل من أشهرهم أحمد الجعبري قائد كتائب عز الدين القسام، الذي قتله جنودٌ عابثون، أصدروا الأمر عبر كبسةٍ صغيرة، وهم في غرفةٍ ضيقة، لحاسوبٍ مكن طائرةً دون طيار، من إطلاق صاروخٍ على سيارة القائد القسامي، ما أدى إلى استشهاده.
لا بطولة في هذه الألعاب النارية التي صنعت خصيصاً للأطفال، والتي تخلو من الرجولة والفروسية، وليس فيها نبل ولا أخلاق المحاربين، وهو ما شهد به الجنود أنفسهم، الذين قاموا بالضغط على زر الكمبيوتر، مطلقين العنان للصاروخ أن ينطلق، فيصيب هدفه ويقتل.
تكاد لا تخلو سماء فلسطين المحتلة، وخصوصاً في قطاع غزة وفي الضفة الغربية، من الطائرات الذاتية الطيران، والتي يطلق عليها الفلسطينيون اسم الزنانة، فهي تطير في السماء، وتغطي المنطقة بأسرها، فتتوقف الهواتف النقالة، أو تشوش على كل المكالمات الجارية، بينما تتقطع صورة التلفزيون، ويعتري الإشارات الفضائية اضطراباتٌ كثيرة، فتتشوش الصورة، وتفقد نقاءها، وهو ما جعل الأطفال الصغار يعرفون أن في السماء طائرة بدون طيار "زنانة" حتى قبل أن يسمعوا صوتها، أو يروا ما يدل عليها.
ولعل العدو الإسرائيلي قد تجاوز في جرائمه من هذا النوع حدود فلسطين المحتلة، ومارس القتل والقنص من السماء في بلادٍ عربية أخرى، فليس من المستبعد أن طائراته قد رصدت أهدافاً في صحراء سيناء وأصابتها، فقد سمعنا عن عشرات حالات القصف الجوي، في ظل عمليات الجيش المصري في سيناء وقبلها، ولكن العدو الإسرائيلي الذي اعتاد ألا يعلن عن جرائمه، لا يستطيع أن يخفيها إلى الأبد، إذ تباهى الكثير من العسكريين الإسرائيليين بقدرتهم على إصابة أهدافٍ بعيدة، والنيل من خصومٍ مفترضين، فيما يبدى الأمنيون الإسرائيليون أنهم نجحوا من خلال هذه التقنية الرائعة، في إجهاض وافشال عشرات العمليات العسكرية التي كانت تستهدفهم، وتخطط للوصول إلى أهدافٍ في عمق كيانهم.
لم تتوقف الاعتداءات الإسرائيلية-الأمريكية المشتركة على أهدافٍ داخل فلسطين المحتلة، أو في عمق صحراء سيناء، بل إن طائراتهم تحوم في سماء السودان وليبيا واليمن والعديد من الدول الأفريقية، بينما تطوف سفنهم العسكرية في البحر الأحمر والمتوسط، وفيها غرف الأتاري نفسها، والجنود اللاهون الذين يتقنون لعبة الموت بالأتاري، ويمارسونها كالأطفال، دون أدنى احساسٍ بالمسؤولية، أو شعورٍ بالجرم، ويبتهجون وهم يرون طائراتهم ترسل حمم الموت على الأرض كنيازك السماء التي تنزل فتحرق أهدافها، وتقتل من تسقط عليه، غير مبالين بحجم الدمار الذي يخلفون، ولا الحزن والألم الذي يصنعون، ولا بآثار الجريمة التي يرتكبون.
الأطباء النفسيون والمختصون بعلم النفس والاجتماع من العاملين في الجيش الإسرائيلي، لا يخفون فرحهم وسعادتهم بهذه الوسيلة، فهي لا تؤثر في نفسيات الجنود، ولا توخز ضمائرهم، ولا تحزن نفوسهم، ولا تبكي عيونهم، ولا تشعرهم بأي تأنيبٍ للضمير، إذ لا يرون دماءاً، ولا يشهدون خراباً، ولا تشتعل النيران أمام عيونهم، ولا تزكم سحائب الدخان أنوفهم، فهي عملياتٌ نظيفة، صديقة للإنسان، لا تضر بنفسيته، ولا تترك أثراً عميقاً في عقله أو ضميره.
إنها لعبةٌ إسرائيلية بتقنيةٍ أمريكيةٍ رائدة، يمارسونها بقوةٍ واقتدار، دون خوفٍ أو مساءلة، وربما دون كلفةٍ أو خسارة، وبلا تضحيةٍ أو مغامرة، ضد العرب والمسلمين في كل مكان، الأمر الذي جعل كل الأهداف ممكنة، وكل الاحتمالات قائمة، فلا هدف بعيد، ولا تفسير مستبعد، ولا تردد في التنفيذ، مستفيدين من عجز حكوماتنا العربية والإسلامية، أو معتمدين على قبولها والتنسيق معها، في اختراق سيادتنا، وانتهاك حدودنا وأرضنا الوطنية.