رحلات الموت في "موسم الهجرة إلى الشمال"

منذ أن أطلق الطيب صالح روايته موسم الهجرة إلى الشمال، فكأنما أطلق لعنة لا تزال تلاحق الجنوب بمفهومه الجغرافي والشرق عموما بمفهومه السياسي.
كان للطيب صالح نظرة عن التقاء وتصارع الثقافات، تلك الثقافة التي جعلت الإنسان الشرقي أو الجنوبي وفقا للطيب صالح يشعر بالضعف وغير النِديٍّة بعالم يتناقض مع ابسط المفاهيم الشرقية. هذا التناقض حسم تاريخيا لمصلحة الغرب وأزال سحر الشرق المرتبط بحكايات ألف ليلة وليلة وحلاق بغداد، وهز ثقة أبناء الشرق بحضارتهم ووجدوا بالغرب ضالتهم رغم الغربة عن الثقافة واللغة والواقع.
هذه الرؤيا دفعت بالكثير ممن تعاني بلدانهم من الحروب والاضطرابات، بان يبيع ممتلكاته ومدخراته ويتجه إلى عالم يجهله هروبا من واقع بائس يتغلغل فيه الفقر والجهل والمرض، أو تسوده الفوضى السياسية والحروب والتشريد مما يجعل من الوطن عبارة عن نفق مسدود من طرفيه، ولا مخرج إلا بالهجرة بحثا عن الفردوس المفقود.
الفلسطيني ومنذ النكبة كان أول من خاض تجربة الهجرة إلى مخيمات البؤس والتشرد، وكانت تلك المخيمات نقطة انطلاق إلى عوالم مجهولة أيضا، مغامرا بنفسه وتاركا كل الذكريات إلى أمكنة لم يختبرها من قبل، لتحقيق أحلامه المؤجلة وإنقاذ عائلة تركها بموطنه أو مخيمه تنتظر ما يجني لسد رمق جوعها وإخراجها من حالة العوز، وكثيرا ما انقطعت أخبار الأبناء أو الآباء بالتيه الفلسطيني ولا زالت عائلاتهم بانتظار عودتهم ولكن هيهات...!
العراقي والسوري والصومالي والسوداني والاريتري وغيرهم، أصابهم ما أصاب الفلسطيني مع فارق الظروف والتفاصيل، فالمخيم أصبح قدرا لتلك الشعوب المقهورة التي تكتوي بنار الحروب ومن هناك تصبو الأنظار إلى تلك العوالم حيث الأضواء وفرص العمل والآمال المعقودة للعودة بياقة نظيفة وجيوب مليئة رغم العمل الأسود بالغالب.

موانئ المتوسط على سواحل إفريقيا في ليبيا والمغرب وتونس وغيرها تشهد تجمعات المهاجرين، الذين يخضعون لسماسرة الهجرة وأصحاب المراكب المتهالكة حيث يكدسوهم بعنابر لا تليق حتى بالأغنام. أطفال ونساء وشباب ورجال يجمعهم هدف واحد هو الوصول إلى موانئ وجزر يعتقدون أنها آمنة ستمنحهم الدفء الذي افتقدوه، والفرصة التي طالما انتظروها، للانطلاق إلى عواصم أوروبا التي لا تخضع لحدود وتفتيش قصري.
كم من هؤلاء يصل إلى أوروبا الواعدة ويحقق الحلم الذي ترك ذكريات طفولته من اجله؟، طبعا ليس الكثير فبالغالب يقعون في شراك خفر السواحل أو يتعرضون لأمواج عاتية تقلب مراكبهم وتجعلهم طعاما للأسماك، ومن يتعلق بخشبة طافية يكتب له العمر من جديد.
جزيرة لامبيدوزا الايطالية التي يمكن تسميتها بجزيرة الموت، تصدرت عناوين الصحف عن غرق العبارات قرب سواحلها، أو إلقاء القبض على مهاجرين غير شرعيين قربها.
تلك الجزيرة شهدت أكبر كارثة إنسانية عندما اطلق خفر السواحل الليبي النار على المهاجرين مما ادى إلى غرق السفينة ومصرع ثلاثمائة من ركابها من فلسطينيي سوريا ومن السوريين الذين فروا من الموت ووجدوه يتربص بهم.
إنها نكبة جديدة للفلسطيني المشرد أصلا فكم من رحلة تشريد حتى يجد ضالته؟. وهي حالة تشريد لسوري فقد الأمان ليشارك الفلسطيني رحلاته السندبادية كما شاركه بها العراقي من قبل.
دول أوروبا وإفريقيا تنفق الملايين من الدولارات لمكافحة الهجرة الغير شرعية على حد تعبيرهم، متناسين أن حكوماتهم سبب مأساة البشرية والإنسانية وسبب تشريد هؤلاء البائسين وغرقهم.
أصبح الفلسطيني والعراقي والسوري والسوداني والصومالي وغيرهم من الجنسيات في مركب واحد معرض للغرق دائما، بعدما اغرقوا تلك البلاد بالحروب والدمار ولم يبخلوا بتصدير آلات القتل رغم أن الإنسان هناك بحاجة لرغيف الخبز وعلبة الحليب للطفل.
أي مأساة تصنعها أمريكا وأعوانها من دول النفط والمتبجحين بالدفاع عن حقوق الإنسان وصون كرامته، رغم أن ثمن رصاصة واحدة كفيل بإنقاذ حياة إنسان من الموت، وثمن طائرة حربية واحدة كفيل بحل مشاكل عشرات الآلاف من الفقراء بتلك الدول.
موسم الهجرة إلى الشمال يبدو انه موسم طويل ومظلم وليس له نهاية ما دام هناك صانعوا النكبات وتجار النخاسة وممولي الحروب والراقصون على طبولها.