للقدس سلام

كنت أسير في هضبة درويش بعد ان عبرت باب الساهرة، أحد أبواب القدس السبعة، عندما انتبهت أنني لا أسمع صوت فيروز يخرج من الدكاين القديمة التي بقيت من فلسطين. التفت يمينا ويسارا وحاولت أن أسيخ السمع رغم أنني متشوق لدخول الحرم المقدسي.. لا صوت يأتي ولو خافتا لفيروز وهي تنشد "زهرة المدائن".. وأنا ذاهب للصلاة، وعيوني ترحل إلى هذه المدينة منذ سنوات وكذلك أشواقي قبل أن أكتشف أنني أسير في طرقاتها وأحث المسير نحو أقصاها.

ثمة حزن كبير في الوجوه، ثمة ألم مختزل، وثمة جراح لا تندمل، ولكن ثمة صمود لا يمكن أن يتخطاه متأمل في هذه الوجوه الشاحبة.. وثمة سلام يتأبطه كل مقدسي وكل فلسطيني وهو يسير في هذه الدهاليز الضيقة إلا من فسحة قلوب أهلها.. وهذه مفارقة غريبة جدا، رغم كل سنوات الاحتلال والقتل والتهجر والذل لكن الفلسطيني يتحدث دائما عن ثنائية الصمود.. والسلام.

حاولت أن أستحضر فيروز وهي تنشد "يا ليلة الإسراء، يا درب من مروا الى السماء،

عيوننا اليك ترحل كل يوم، وانني اصلي". هذه الهضبات لا تنتهي، وكل هضبة تقودنا إلى هضبة، من هضبة درويش إلى هضبة الشيخ حسن.. وبين الهضبة والهضبة ثمة أمواج من البشر الذاهبون للصلاة.. فجأة بدت قبة الصخرة، صامدة في شموخ، لا تختلف عن صمود الفلسطينيين، ولا أعرف حتى الآن أيهم يستمد صموده من الآخر. ورغم جلال اللحظة وقداستها إلا أنني كنت أحاول أن أستحضر التاريخ وأحداثه الجسام التي مرت من هنا، وسارت في هذه الشوارع، وعبرت هذه الهضاب والدهاليز

والأبواب، حاولت أن أستذكر كل الانتصارات والانكسارات، الهزائم والخيبات، النكسات والخيانات، الآلام والأحلام، كلها مرت من هنا، وكلها مختزلة في الوجوه من أكبر شيخ معمر هنا إلى أصغر طفل جعلته الظروف يكون اكثر وعيا، لكنه أكثر بعدا عن طفولته. كل تلك التفاصيل والثنائيات يمكن أن تجدها تسير إلى جوارك وأنت تمشي في باحات الأقصى الشريف.. لكن ما يمشي بجوارك أيضا إنسان مقدسي لا يمكن إلا ان تصفه بالصمود والإيمان بالقضية وأنها ستنتصر في يوم من الأيام. والتاريخ يقول أن عمر الظلم والاحتلال قصير وإن طال.

في باحة قبة الصخرة كنت أحاول أن استمع إلى الصوت الآتي من البعيد هل هو صوت فيروز التي تقر باستشهاد السلام في وطن السلام أم هو صليل سيوف صلاح الدين الأيوبي أتت فاتحة من جديد.. وربما كانت قادمة الآن من الشارع الذي مازال يحمل اسمه ويمتد مقابل باب الساهرة رغم أنف الغاصبين. لكن عندما التفت يمينا ورأيت جنود الاحتلال يمرون ببنادقهم بهدوء بين باب القطانين وباب المغاربة وما بينهما وما حولهما تيقنت أن الصوت صوت فيروز وأن لا صوت هنا يعلو على صوتها رغم الغياب: "وسقط العدل على المداخل، حين هوت مدينة القدس، تراجع الحب، وفى قلب الدنيا استوطن الحرب".

لكن لا غضب آت أبدا، لا غضب ساطع أبدا، وكل هذه الطرقات للمحتل، وأقفلت أبواب المدينة يا فيروز، اقفل باب المغاربة، وأقفل غيره وهدمت حارتهم وتحولت إلى حائط مبكى.

لا أثق بالنبوءات ولكن أثق في أن هذا الصمود الذي لم أذهب إلى مكان إلا سمعته، من أكبر رجل في السلطة الوطنية إلى السياسيين والمثقفين، وإلى أمهات الشهداء والأسرى أنه سيثمر في يوم من الأيام، وأثق كذلك في حكاية التاريخ التي تثبت أن لا ظلم يدوم ولا احتلال وكما قال أبو عمار "أحنا وراهم والزمن طويل".

ولذلك ثقي يا فيروز أنك ستصلي، كنت أحسب أننا نمارس الحلم أكثر من الحقيقة ولكن بعد أن سمعت ورأيت الناس هنا يتنفسون الصمود،

ويشربونه مع حليب أمهاتهم أيقنت أنك ستصلي يا فيروز وسيصلي المسلمون في المسجد الأقصى فاتحين بإذن الله، وسيصلي المسيح في "قيامتهم" جوارا بجوار. وشعب الجبارين كما وصفه الشهيد ياسر عرفات قادر أن يعيد بهاء القدس وسيغسل نهر الأردن في يوم من الأيام آثار القدم الهمجية.

"وبأيدينا للقدس سلام

للقدس سلام"

 

مقال/  للصحفي العماني عاصم الشيدي، كتب حين زار مدينة القدس المحتلة