في الذكرى التاسعة لاستشهاد قائد الشعب الفلسطيني الرمز الشهيد ياسر عرفات ، وبعد نشر التقرير السويسري الذي يؤكد أن الرئيس ياسر عرفات قتل بالسم فإنني أطالب السلطة الوطنية الفلسطينية أن تلجأ إلى مجلس الأمن الدولي للمطالبة بتشكيل محكمة دولية خاصة تتولى التحقيق في جريمة قتل الرئيس القائد الشهيد ياسر عرفات والكشف عن قتلته ، فقد أكد هذا التقرير صحة اتهامنا لإسرائيل باغتياله وبالسم نتيجة مشاهداتي له في مستشفى بيرسي في فرنسا قبل استشهاده أثناء وجوده في غرفة العناية المكثفة وأثناء تغسيله ، فإن اللجان التي شكلت للتحقيق في استشهاده والخبراء متعددي الجنسيات الذين حصلوا على عينات من رفاته ؛ بالإضافة إلى اعترافات قادة وساسة إسرائيل وأمريكا بضرورة تغييب الرئيس ياسر عرفات عن المشهد السياسي ومن له مصلحة في ذلك لتصفية القضية الفلسطينية والقضاء على آمال الشعب الفلسطيني في الحرية والاستقلال وإنهاء الاحتلال عن أرضه وإقامة دولته الفلسطينية ذات السيادة الكاملة وعاصمتها القدس المباركة ؛ كل ذلك يؤكد اكتمال أركان الجريمة ، فالشعب الفلسطيني وفاء لقائده ينتظر هذا القرار لبيان القتلة وتقديمهم إلى محاكمة عادلة وإيقاع أقسى العقوبات بهم ، فإن انتظار باقي تقارير المعامل المخبرية من باقي الدول ونتائج تحقيقات اللجان المتعددة سيوقعها في تناقض مما سيؤدي إلى غياب الحقيقة التي باتت واضحة .
يقول الله سبحانه وتعالى { وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ } آل عمران 169 ، جبلت أرض فلسطين بدماء الشهداء من لدن الصحابة رضي الله عنهم إلى يومنا هذا وإلى يوم الدين ، وترابط فيها الطائفة المنصورة ، تدافع عنها وعن مقدساتها وثوابتها رغم المؤامرات التي تحاك ضدها ، قال صلى الله عليه وسلم { لا تزال طائفة من أمتي على الدين ظاهرين لعدوهم قاهرين لا يضرهم من خالفهم إلاَّ ما أصابهم من لأواء حتى يأتيهم أمر الله وهم كذلك " قالوا يا رسول الله وأين هم ؟ قال " ببيت المقدس وأكناف بيت المقدس } رواه أحمد ، إن كل فلسطيني ثابتٍ مرابطٍ في القدس وأكنافها قابضٍ على الجمر فيها لا يتنازل عن ذرة من ترابها هو من هذه الطائفة ، فإذا توفاه الله وهو على ذلك فهو من الشهداء ؛ فكيف بمن قتل فيها أو من أجلها ودفاعاً عنها وعن هويتها على يد المحتلين الغاصبين ! لا شك أنه من الشهداء الأبرار المقربين .
لذا فقد سقطت كواكب من شهداء الأمة على مدار التاريخ الإسلامي العريق دفاعاً عنها قادة وعلماء وأفراداً ، وما زالت الأمة وفي مقدمتها الشعب الفلسطيني الصابر المرابط يقدم الأسرى والجرحى والشهداء تلو الشهداء في سبيل دينهم وعقيدتهم ووطنهم ، وحفاظاً على مدينتهم المقدسة عاصمتهم الدينية والروحية والوطنية والسياسية ، وتصدياً للمؤامرات التي تحدق بمسجدهم الأقصى المبارك ؛ مسرى الرسول محمد صلى الله عليه وسلم ومخاطر التقسيم والتهويد والتقويض ، وإحباطاً للاقتحامات اليهودية المتواصلة . فاليوم يراد لهذه المدينة المباركة أن تسرق من شعبها وأمتها ، وأن تُغْتَصَبِ من أهلها وتُنْتَهَكَ حرمتها ، فها هي تتعرض يومياً لكل صور الاعتداء والتدنيس ، ويتعرض تاريخها لعمليات التزوير وهويتها للتغيير ، وتتعرض للتهويد والأسرلة بتغيير مشهدها التاريخي والحضاري لإظهارها كمدينة يهودية أمام العالم ، وتجرى الحفريات في كل مكان فيها وبالأخص المسجد الأقصى المبارك بحثاً عن أيّ دليلٍ يثبت يهودية تاريخها مع اعتراف علمائهم بعدم جدوى تلك الحفريات ؛ مما يهدد مبانيها وعمائرها بخطر الانهيار .
ولعل من أجلّ الشهداء وأعظم المجاهدين الذين قدمتهم فلسطين شهيد القدس الذي نعيش في هذه الأيام الذكرى التاسعة لاستشهاده ، إنه الرئيس ياسر عرفات رحمه الله رمز كفاح الشعب الفلسطيني ومقاومته ، فهو الذي حوَّل قضية الشعب الفلسطيني من مجموعة لاجئين تُسْكِتُهُم المؤن والخيم والمساعدات الإنسانية إلى قضية شعب يناضل لتحرير وطنه من نير الاحتلال الغاشم وتحصيل حقوقه المشروعة ، وتحقيق آماله بإقامة دولته المستقلة ذات السيادة الكاملة .
هذا الرمز الذي قضى عمره في خدمة قضيته والجهاد من أجلها والدفاع عنها من على كل المنابر ؛ ومضى غير مبال بما يصيبه من ملاحقة ومطاردة وحصار ؛ ورفض كل مناورات وادّعاءات الساسة الإسرائيليين للنيل من الموقف الفلسطيني الواعي لما يُحاك ضده من مؤامرات في الظلام ؛ وأصر على المطالبة بالسيادة الكاملة على القدس ومقدساتها ؛ حتى أصبحت حياته من بدايتها إلى منتهاها سيرة حافلة بالتضحية والفداء والصبر والثبات .
أما القدس فكانت تمثل أولوية في فكره ومواقفه ودعمه لأهلها ولصمودهم فيها ، بل لقد قدم روحه وبذل حياته تمسكاً بإسلاميتها وعروبتها على الرغم من صور الترغيب والترهيب التي اتبعت معه فباءت كلها بالفشل ، فقد حدثني هو شخصياً أنه في كامب ديفيد في شهر تموز عام 2000 الذي كان حلقة في سلسلة المؤامرة على القضية الفلسطينية مورست عليه ضغوط هائلة لا يتحملها بشر من الإدارة الأمريكية ورئيسها كلينتون الذي كان يستعين ببعض الزعماء العرب (ممن ذهبوا إلى مزابل التاريخ) لإقناعه بقبول إملاءاتها إرضاء للُّوبي الصهيوني في أمريكا ، وإرضاء لرئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك وهو باراك ، وعُرِضَتْ عليه عشرات مليارات الدولارات لحل مشاكل الشعب الفلسطيني واللاجئين ، وأغري بتتويجه ملكاً للعرب مقابل الاعتراف بحق للاحتلال الإسرائيلي في مدينة القدس ؛ وبالأخص أسفل المسجد الأقصى المبارك ، فكان موقفه الشهير الذي لا يقلّ شجاعة وموافقة للحق عن موقف السلطان عبد الحميد رحمه الله حينما جاء هرتزل يغريه بالمال يوم أن كانت خزائن الدولة العثمانية خاوية فعرض عليه 150 مليون ليرة ذهبية مقابل الموافقة على إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين فرفض ، وياسر عرفات أيضاً رفض وقال [ إن المسجد الأقصى المبارك هو جزء من عقيدة مليار ونصف المليار من المسلمين لن أعترف إلا بما يعترف به كل هؤلاء ] .
ونتيجة لذلك صدر القرار بقتله بدليل أن كلينتون قال له : إذا لم توافق فستحدث تغييرات في المنطقة وستكون أنت من ضمنها ، فرد عليه قائلاً [ أدعوك من الآن لحضور جنازتي ] . وفشلت هذه الحلقة من حلقات المؤامرة على القضية الفلسطينية نتيجة هذا الموقف الصلب من الرئيس الشهيد بعدم الخضوع لإملاءات الرئيس الأمريكي الأسبق كلينتون .
بعد ذلك طلب ياسر عرفات عقد اجتماع طارئ للجنة القدس ، فعقدت اللجنة اجتماعها في المملكة المغربية بدعوة من العاهل المغربي في شهر 8 عام 2000 ، اجتمع الرئيس الشهيد بالوفد الفلسطيني ـ وكنتُ أنا من ضمن الوفد ـ في جناحه في أغادير ليلة الاجتماع فشرح لنا ما حصل معه في كامب ديفيد ، فقال له أحد أعضاء الوفد كيف تجرؤ أن تقول لكلينتون لا ؟ فرد عليه [ إنني كنت أتحدث بما أعتقد فموقفي مستمد من ديني وعقيدتي ومن إخلاصي لقضيتي وقضية شعبي ] .
وبعد ؛ لا يكفي في ذكرى شهيد القدس أن تعتصر قلوبنا أسىً على رحيله واغتياله ، أو أن تسكب عيوننا عبرات الحزن على مصابنا به ، فوفاؤنا له في ذكراه يوجب علينا إكمال مسيرته والبقاء على عهده ؛ متمسكين بالمبادىء الأساسية لقضيتنا ؛ محافظين على ثوابتها كما حافظ ؛ فإن التأسي والاقتداء أصدق دليل على الوفاء وتخليد الذكرى ، فكان يردد دوماً [ لم يولد القائد الذي يمكن أن يفرط بالقدس ؛ وليس فينا وليس بيننا وليس منا من يفرط بذرة من تراب القدس ] ، وأما عودة اللاجئين فقد جعله خطاً أحمر عنده لا يجوز الاقتراب منه أو تجاوزه فقال [ إن عودة اللاجئين إلى ديارهم وممتلكاتهم حق مقدس كبقية المقدسات ] .
بقلم الدكتور الشيخ تيسير التميمي / قاضي قضاة فلسطين رئيس المجلس الأعلى للقضاء الشرعي سابقاً
www.tayseer-altamimi.com ، [email protected]