يبدو أن العرب لا يتعلمون من تجاربهم، ولا يتعظون من ماضيهم، أو كأنهم لا يقرأون تاريخهم، ولا يعرفون ماذا جرى مع آبائهم وأجدادهم، فلا يميزون بين صديقهم أو عدوهم، ولا يعرفون ناصحهم من المتآمر عليهم، ولا يفرقون بين من يمحضهم الصدق، وبين من يتعمد الكذب عليهم، ويثقون في كل من يتحدث معهم، ويصدقون كل من يعدهم، في سرمديةٍ من السفاهة والبله، وقلة الفهم ونقص الوعي، وكأن العرب لا عقل عندهم، ولا إدراك لديهم، يكررون تجاربهم بذات الغباء، وينالون ذات الجزاء، وكأنهم شياهٌ يساقون كل صباحٍ إلى المذبح، ولا يتعلمون ممن سبقهم، ولا يحذرون مما أصاب غيرهم.
ويكأن العرب لا يصدقون إلا عدوهم، ولا يحبون النصح من صديقهم، فقد أصغوا كثيراً إلى السير هنري مكماهون، وسلموه مفاتيح بلادهم، وناصية قرارهم، وقبلوا بأن يكتب لهم مصائرهم، ويحدد مستقبلهم، ويرسم حدود بلادهم، ويعرف حلفاءهم، ويبن لهم أعداءهم، بينما كان في حقيقته يخطط لخدمة بلاده، وتحقيق أهداف حلفائه، فكان عند العرب كالذئب يرعى الغنم، أو كالقط يطهو لهم اللحم، فلا غنمهم نجت، ولا لحمَ لهم القطُ أبقى.
مازال العرب يحتفظون برسائل مكماهون إلى الشريف حسين، بكل ما فيها من وعودٍ موثوقة، وأماني معسولة، وأحلامٍ وردية، وقد خطها بأسلوبٍ جميل، وضمنها كلماتٍ رقيقة، ووشحها بعواطف ومشاعر شفافة، وكأن الذي يكتبها أخٌ لشقيقه، أو والدٌ لولده، يعده بكل جميل، ويمنيه بكل صدق، ويبشره بمستقبلٍ واعدٍ، وأيام جميلة، يتخلصون فيها من الاحتلال، وتستقل بلادهم وأوطانهم، وتنعم شعوبهم، وتنهض بلادهم.
ولكن النتيجة كانت عكس ما أمل العرب وتوقعوا، وأسوأ مما فكروا وظنوا، فقد تمزقت بلادهم، قوى الاستعمار حدودها بخبثٍ ولؤم، وزرعت فيها بؤر ثوراتٍ، وأسس صراعٍ، ورسخت لانشقاقاتٍ دينية ومذهبية، وهيأت لانقساماتٍ قومية وعرقية، ثم شتت بلادنا بين الدول الاستعمارية، وأصبحت كل دولةٍ عربيةٍ، نهباً لاستعمارٍ جديد، ومغتصبٍ آخر، وإن ألبسوه ثوباً قشيباً، وأطلقوا عليه اسماً جديداً، فقالوا عنه إنه انتدابٌ للنهوض، ووصاية للتطور، وفترة حضانةٍ لا أكثر، كي تنشأ المؤسسات، ويتصلب عود البلاد، وتشتد عزائمها، لتقوى على تحمل المسؤوليات، والتصدي للشدائد، ولكنهم كذبوا وخدعوا، وخانوا وغدروا، فكانوا استعماراً أشد وأنكى، وعدواً أسوأ وأخطر، دمروا بلادنا، وصادروا قرارنا، وسرقوا خيراتنا، ونهبوا مقدراتنا، ثم اقتطعوا جزءاً غالياً من أرضنا، ومنحوه بغير وجه حقٍ إلى عصاباتٍ يهودية، ومجموعاتٍ إرهابية، جاءت من أقاصي الأرض لتستوطن أرضنا، وتحتل بلادنا، وتزيف ماضينا، وتسرق صفحات تاريخنا.
اليوم يتكرر التاريخ من جديد، حاملاً معه أحد أحفاد هنري مكماهون، وواحداً من السلالة الاستعمارية الكولونالية الجديدة، ليقوم بذات الدور، ويؤدي ذات المهمة، ويطوف على ذات البلاد التي كان يطوف عليها جده من قبل، ويلتقي بأحفاد من التقاهم في مصر والحجاز، في محاولةٍ منه ومن بلاده جديدة لتخدير العرب أو خداعهم، والضحك عليهم والاستخفاف بهم.
فها هو جون كيري ممثل عاصمة الاستعمار الغربي، ينتقل من عاصمةٍ عربيةٍ إلى أخرى، ويتنقل بين القاهرة وعمان، والرياض وبيروت، وبغداد ورام الله، ويعلن من كل عاصمةٍ عربية، وفي حضرة قادتها وحكامها، أنه مع الحق العربي، ومع استعادة الفلسطينيين لحقوقهم، وأنه يؤيد تمكينهم من بناء دولتهم المستقلة، وتشكيل هويتهم الوطنية، ووضع أسس أنظمتهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية الخاصة، ويعلن أنه ضد الاعتداءات الإسرائيلية على المناطق الفلسطينية، وأنه يندد بأعمال القتل والاعتقال، والتخريب والمصادرة، وأنه يعارض بناء وتوسيع المستوطنات الإسرائيلية فوق الأراضي الفلسطينية، وعلى حساب حقوقه المشروعة، ويرى أنها تضر بعملية السلام، وتعرض مستقبل المنطقة إلى الخطر.
وفي المقابل يطالب جون كيري الدول العربية أن تقف إلى جانب الحلفاء الجدد، الولايات المتحدة الأمريكية ودول أوروبا الغربية، ومعها دولة الكيان الصهيوني، ضد إيران ومشروعها النووي، وأن يكونوا متفهمين لسياسة التشدد الغربي تجاهها، ولنبرة التهديد والجدية في مواجهتها، ذلك أنها تستهدف الاستقرار العالمي، وتضر بالتوازن الدولي، محذراً الدول العربية من مغبة الصمت، وسوء عاقبة القبول بالمشروع النووي الإيراني، أو الاستسلام له، فهو إن كان يهدد المصالح الغربية في العالم، فإنه يضر بالعرب، ويعرض أمنهم واستقلالهم للخطر، واصفاً هذا الحلف المقدس بأنه حلف الأحرار، وتكتل الحرية، وأن من يتفق معه سيناله الخير، وسيقطف ثمار التحالف، ومن نأى بنفسه وامتنع عن التعاون، فإنه سيكون حليفاً للشر، وعوناً لقوى البغي والضلال، وسيطاله العقاب، وسيلحقه الجزاء.
ولا يستحي جون كيري من مطالبة العرب بالوقوف إلى جانب إسرائيل، وتفهم مخاوفها، والقبول بسياستها، وتأييد تهديداتها، والعمل على مساعدتها في مواجهة إيران، وتقديم كل ما يلزم لها في معركة المواجهة، ضماناً للنصر، وتأكيداً على منع انتقال خطرها إلى أحد.
ويرى أن إسرائيل دولة تستشعر الخطر من إيران، وتخاف على أمنها منها، ولها الحق في ذلك، إذ أنها تعتقد بأن قدراتها النووية تستهدفها قبل غيرها، وتهدد مصالحها، وتضرب أسس استقرار وعوامل الجذب لديها، ما يجعلها تفكر بمواجهتها، وتستصرخ دول العالم كله ليقفوا معها، ويساندوها في مواقفها، ويتعاونوا معها في ضرب واجهاض القدرات النووية الإيرانية، ويتناسى الأخطار الإسرائيلية الحقيقية، وترسانتها النووية المهولة، وأسلحتها الفتاكة والمدمرة، وأنها دولة معتدية وغاصبة، وأنها محتلة لأرضٍ عربية، وقد طردت أهلها، وشردت أبناءها، وقتلت خيرة رجالها.
إنها مهزلةٌ جديدة، وفصلٌ آخر من فصول التهكم الغربي بالعرب، والاستخفاف الدولي بعقولنا ووعينا، ومحاولة للتذاكي علينا والتغرير بنا، إذ يريدون استخدامنا كورقةٍ رابحةٍ في أيديهم، لمهمةٍ قذرةٍ هم يعرفونها ويخططون لها، ثم سيلقون بها في سلة المهملات، كعادتهم مع أسلافنا، وكعهدهم القديم مع شعوبنا، الذين غدروا بهم وخانوهم، وكذبوا عليهم وتآمروا على مستقبلهم، فهل يصدق العرب وعودهم من جديد، ويأملوا بهم ويطمئنوا إليهم، فنعود لهم عبيداً، وفي أيديهم معاول، خدمةً لأهدافهم، وتنفيذاً لأغراضهم، وتحقيقاً لمنافعهم.