باتت قضية اندلاع انتفاضه ثالثة في الأراضي الفلسطينية المحتلة محور اهتمام العديد من الجهات بما في ذلك جون كيري وزير خارجية الولايات المتحدة الذي حذر من قيام مثل هذه الانتفاضة.
جهات عديدة فلسطينية وغير فلسطينية، ترغب وتمني النفس باندلاع انتفاضة ثالثة تشعل الأرض الفلسطينية المحتلة تحت أقدام وفوق رؤوس الجميع، انتفاضة يعتقد من يتمنى اندلاعها أنها ستكون "الرافعة" التي تؤدي إلى التخلص من الوضع القائم، والذي من المؤكد، انه سيظل يراوح مكانه لسنوات، ربما أطول مما يتصور البعض، طالما ظلت موازين القوى الحالية هي السائدة، والتي تعمل بدون شك وبدون كلل لصالح الاحتلال، فتعمل على تعميقه وتجعل من غير السهل التخلص منه.
في كثير من الحالات، تكون الجهات "الفلسطينية" التي تتمنى قيام انتفاضة ثالثة، وتدعو أحيانا إليها، هي ذاتها التي تخشى قيام مثل هذه الانتفاضة، وتتمنى ألا تقوم، لأنها في حال اندلاعها قد تأخذ معها الكثير مما هو في غير حساباتهم، وقد تؤدي إلى نتائج ومآلات لم يأخذوها بعين الاعتبار، فهي قد تفرز قيادات جديدة وقد تَكْنِسُ العديد ممن هم الآن في "عِز" أوضاعهم الاجتماعية والقيادية والاقتصادية "المحرمة"، والتي لا يستحقون، نتيجة الفساد المستشري في كل الأركان والزوايا.
في الحديث عن انتفاضة ثالثة، لا يتم تحديد أي نوع من الانتفاضة "الأُمْنِيَة" يريدون، هل تكون على غرار الانتفاضة الأولى بكل ما فيها من مظاهر سلمية أذهلت العالم، و"حرقت" صورة دولة الاحتلال "البراقة" كديمقراطية وحيدة في المنطقة، أم ترى على غرار الانتفاضة الثانية التي تمت عسكرتها بشكل يبعث على الكثير من التساؤلات المشروعة، والتي نجح قادة الاحتلال في تصويرها على انها تهدف إلى القضاء على دولة الكيان ومسحها من خارطة العالم، واستطاعوا بعدئذ استعمال كل وسائلهم العسكرية الأمريكية الصنع في القضاء عليها، فيما وقف العالم في حينه، مصفقا ومهللا لقوات الاحتلال وقادته القتلة، الذين يحاربون بقوة "الإرهاب الفلسطيني" و"البربرية الفلسطينية" التي تقتل العزل من النساء والأطفال في شوارع وحافلات ومطاعم ومدن دولة الكيان.
في كل مرة تصل الأمور في الأراضي الفلسطينية إلى وضع "مسدود"، يخرج علينا أصحاب الأمنيات بسيف الانتفاضة الثالثة، وهاهو السيد كيري يلحق بهؤلاء، ليرد عليه وزير الحرب الصهيوني بأنه لا يخشى اندلاع مثل هذه الانتفاضة، وما أن صرح كيري بتصريحه، حتى بدأ البعض يردد أن الانتفاضة الثالثة تقف خلف الأبواب "المغلقة" تنتظر من يفتحها، وكأن الأمر هو فعلا بهذه البساطة، أو كأن هذا الفعل الجماهيري "الثوري" ينتظر الإشارة من هذا القائد الهمام أو ذاك.
قبل أن "يُشَرف" السيد كيري بزيارته إلى بيت لحم، تداعت جميع الفصائل والقوى الفلسطينية بما في ذلك حركة فتح، واتفق الجميع على تنظيم ما قالوا إنه "وقفة" تتزامن مع الزيارة احتجاجا عليها، وعلى المواقف الأمريكية الداعمة لدولة الاحتلال، وعلى استمرار سياسة الاستيطان والممارسات الاحتلالية الأخرى المعروفة من تهويد للقدس وملاحقة واغتيالات وقتل وحصار لغزة...الخ، فماذا كانت النتيجة؟
لقد فشلت جميع فصائل منظمة التحرير وغير منظمة التحرير، في حشد ما لا يصل إلى المئات من الناس، حيث لم يكن هناك سوى العشرات من المحتجين، "وهم بالمناسبة نفس الوجوه التي تشارك في كل فعالية أو حركة احتجاجية"، وفي المقابل كان هنالك من رجال الأمن من مختلف التشكيلات، ما يزيد عددهم على أعداد المشاركين، يتحصنون خلف دروعهم وكل وسائل قمعهم، هذا الفشل في جمع وحشد الجماهير يمكن أن يكون مؤشرا على كيف هي الأوضاع في الأراضي الفلسطينية، وفيما إذا كانت "قاب قوسين أو أدنى" من اندلاع انتفاضة ثالثة أم لا.
الانتفاضة الثالثة التي يراها البعض قريبة، ونراها بعيدة، لا يمكن أن تتحقق كما يعتقد البعض ومن ضمنهم جون كيري،"بكبسة زر"، حيث ان الفعل الجماهيري لا بد له من ظروف وشروط تؤدي إلى إنضاجه، وهي ظروف من الواضح انها لم تتهيأ بعد، وهي لن تتهيأ طالما يعيش الوطن حالة انقسام عميق ليس فقط بين حماس وفتح، بل وبين فتح ممثلة بالسلطة وكل من يعتقد بأن هنالك الكثير من الممارسات التي تمارسها السلطة غير صحيحة، وبين من يؤيد المفاوضات ومن هو ضد المفاوضات، وبين من يدعو إلى المقاومة ومن يدعو إلى المفاوضات والى غير ذلك من أوجه خلاف وجدت مع وجود السلطة، خلافات كان من غير الممكن وجودها قبل إقامة السلطة.
ظروف الانقسام التي تعيشها الأراضي الفلسطينية لا تقتصر على حركتي فتح وحماس، ولا على الانقسام الجغرافي بين الضفة الغربية وقطاع غزة، حيث هناك اختلافات وانقسامات عمودية وأفقية وفي كل الاتجاهات، واهِمٌ من يعتقد ان من السهل ردمها، وهي تترسخ بشكل يومي وتزداد عمقا مع مرور الوقت.
الانتفاضة ليست أمنية نتمناها ، وهي ليست فعلا يمكن أن يتم لان أحدهم أراده أو أمر به، كما انها ليست بكل هذه البساطة التي يتصورها الداعين إليها، وهي لا شك ستأتي عندما ستأتي، ستأتي عندما تتوفر الشروط الضرورية واللازمة لاندلاعها بعيدا عن الأماني والدعوات.