من نافلة القول ، ان الانتخابات الأخيرة للسلطة المحلية حملت بداخلها ، وفي طياتها ، آفات خطيرة وظواهر مدمرة لها انعكاسات سلبية على تطور ورقي ونهضة مجتمعنا العربي ، ومستقبل العمل السياسي الحزبي والأهلي المدني في هذه البلاد . وهي ظواهر تكشف بكل وضوح وجلاء عمق الأزمة الحادة الراهنة التي تجتاح مجتمعنا ، أزمة فكر ، وأزمة أخلاق ، وأزمة قيادة ، وأزمة تنظيمات سياسية .
لقد أثبت المشهد الانتخابي المحلي الأخير ان الثقافة السياسية السائدة هي ثقافة عصبوية قبلية عائلية حمائلية عشائرية وطائفية ، وان الانقسامات الاجتماعية ، التي تكرس الانتماءات التقليدية ، تدق مساميرها في نعش العمل الحزبي والتنظيمي . فقد عادت العائلية والطائفية السياسية وكشرت عن أنيابها من جديد ، وبقوة ، وبرز التفسخ الاجتماعي والاحتراب الحمائلي ، قياساً بالثمانينات والتسعينيات من القرن الماضي ، عندما انتصرت الجبهات المحلية في العديد من الأماكن والمواقع . كذلك اتسعت رقعة المحسوبيات واللهاث وراء المصالح الانانية والفردية الضيقة ، وانتشرت أساليب الاغراء والاغواء وشراء الذمم والضمائر والأصوات واستغلال اصحاب الاحتياجات الخاصة وضعاف النفوس ، فضلاً عن تلاشي القيم والمعايير الاخلاقية ، التي نشأنا وتربينا عليها وشربناها مع الحليب من أمهاتنا . في حين هزمت الأحزاب والقوى والتيارات السياسية الفكرية والعقائدية ، التي كانت فاعلة على الساحة . ولا أغالي إذا قلت ، انها اندحرت وتهاوت في هذه الانتخابات ، وخاصة الجبهة الديمقراطية ،التي تلقت ضربة قوية في اعقاب الهزة السياسية العنيفة بفوز علي سلام من الجولة الأولى ، الذي انشق عنها ، وخسارتها للمجلس البلدي في الناصرة ، الذي ظلت في ادارة شؤونه لأكثر من اربعين عاماً .
ان الأمر الغريب والمؤلم ، هو الموقف الانتحاري ، السياسي والاجتماعي والأخلاقي ، والعمل المعيب والمخجل ، الذي مارسته وقامت به قيادة الجبهة ورامز جرايسي ، بالتوجه الى المحكمة لمنع نشر نتائج الانتخابات إلا بعد فرز أصوات الجنود..!. فهذا العمل فاق كل التوقعات ، وشكل صدمة كبيرة لكل الشرفاء والعقلاء ، وللقوى والأوساط الوطنية الغيورة على الجبهة صاحبة التاريخ النضالي والوطني والسياسي ، التي لم تستوعب بعد مثل هذا الموقف المخزي والمشين ، الذي يفتقر للمصداقية الأخلاقية والفكرية والسياسية والعقائدية ، وأضر بها ، وأساء الى تاريخها العريق .
وإذا كان التجمع الوطني أحرز بعض النجاحات في بعض المواقع إلا انه تراجع أيضاً . وقد خسرت النائب حنين الزعبي المنافسة الانتخابية لرئاسة المجلس البلدي في الناصرة ، وعادت بخفي حنين الى الكنيست بعد ان أشبعتنا كلاماً وتنظيراً وأوهاماً بأنها قاب قوسين أو أدنى من الرئاسة ، ويا دوب حصلت على حوالي اربعة ألاف صوت ..!. كما ان التجمع ذاب في قلب قوائم عائلية ومستقلة ، كما حدث في ام الفحم ، حيث انخرط في قائمة الشيخ خالد حمدان ، الذي خرج على قرارات الحركة الاسلامية وخاض الانتخابات بدونها شكلياً ، ولكن في العمق ووراء الستار بدعمها ومؤازرتها .
أما بالنسبة للحركة الاسلامية فقد غابت واختفت عن الساحة الانتخابية بعد أفول نجمها ، الذي سطع في الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي .
وفي قراءة لمجريات ومسار المشهد الانتخابي يستدل أن المرشحين للرئاسة فاق عددهم كل التوقعات والتصورات ، ما يثبت ويؤكد ان رئاسة السلطة المحلية أصبحت في زماننا أكبر مشروع اقتصادي استثماري ، وأهم مركز للنفوذ والسيطرة والوجاهة الاجتماعية .
وفي المقابل برزت في هذه الانتخابات مشاركة المرأة في الحملات الانتخابية والدعائية ، رغم تهميشها في أماكن العضوية . وكان للشباب الحضور الساطع والمؤثر والمشاركة الفعالة والدور البارز والهام في الحراك الانتخابي ، والمساهمة في صنع واتخاذ القرار وتنفيذه ، وفي عملية التحشيد وجلب الأصوات يوم الانتخابات الى صناديق الاقتراع سعياً لاحداث التغيير المرتجى والمشتهى .
وعلى ضوء ما تقدم يمكننا القول بالمختصر المفيد ، ان الصراع والتنافس على السلطة المحلية لم يكن تنافساً سياسياً ، بل هو صراع على المناصب والمقاعد والغنائم . وان العائلية والطائفية السياسية التي تسيطر على المشهد الانتخابي ، ويساهم في تجذيرها وتعميقها أناس ينتمون الى شريحة "المثقفين" و"الاكاديميين ، ويشاركون في برايمرز العائلة أو القبيلة ، هي وباء اجتماعي يجب التخلص منه واستئصاله من حياتنا ، لكي ننهض بمجتمعنا ونبني واقعاُ مختلفاُ وجديداُ . وعلى الأحزاب السياسية التي هزمت واندحرت ، وفي مقدمتها الجبهة الديمقراطية ، اجراء مكاشفة حقيقية وشفافة ، ونقد ذاتي ، وجلد للذات ، وحساب للنفس ، لمجمل مسيرتها واجندتها ومواقفها ، والتعلم من الأخطاء المتراكمة ، واستخلاص العبر من افرازات المنافسة الانتخابية .عدا عن الانفتاح على الآخرين وقبول مبدأ التعددية السياسية والفكرية ، وتغيير النهج والتكتيك السياسي ، والاقتراب من الناس وهمومهم ، وسماع نبض الشارع ، والمشاركة في المناسبات الاجتماعية ، والقيام بمبادرات جديدة وانشطة وفعاليات تعيد ثقة الناس بها.