الهجرة ووعد بلفور

       قال تعالى : ( إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ۖ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَىٰ ۗ وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا ۗ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) التوبة 40 .

نزلت هذه الآية الكريمة بمناسبة معركة تبوك ، حيث أعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم صحابته الكرام رضوان الله عليهم أجمعين أنه عزم على غزو الروم في بلاد الشآم ، وعليهم أن يجهزوا أنفسهم مادياً ومعنوياً ، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن ليعلم أحداً عما ينوي فعله خاصة في الغزو ، حتى لا يتسرب العلم إلى أعداء الله فيستعدوا . وما أعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم صحابته الكرام إلا لأن السنة كانت مجدبة قاحلة ، والحر قيظ وشديد ، والمسافة بعيدة والشقة صعبة ، والقتال مع أكبر امبراطورية في العالم آنذاك ، لذا أخبر أصحابه الكرام كي يجهزوا أنفسهم بشراء ما يلزمهم من الحمولة والخيل والإبل ، وما يحفظهم من الطعام والشراب وأن يستعدوا للأمر أهبته . والله سبحانه وتعالى قادر على أن ينصر رسوله الكريم بدون أصحابه الأبرار ، وها هو يذكرهم بمنته على رسوله صلى الله عليه وسلم وصاحبه أبي بكر الصديق رضوان الله عليه إذ نصرهما رغم قلة العدد والعدد ، حتى عندما وصل إليه المشركون وهما في الغار ، إذ يقول له أبو بكر رضي الله عنه : يا رسول الله ، أنما أنا واحد ، وأما أنت فرسول الله ، إذا ما أصابك شيء انقطع وحي السماء ، وكان يخشى على رسول الله صلى الله عليه وسلم . ورسولنا صلى الله عليه وسلم يهدئ من روعه ، ويطمئنه أن الله معنا ، ومن كان الله معه ، فلن يغلبه شيء . ( إذ يقول لصاحبه : لا تحزن إن الله معنا ) وقد نصرهما الله سبحانه وتعالى بجنود لم يرها الأعداء ، وأحس بهما المهاجران عندما وقف أحد المشركين المطاردين للمهاجرين على فوهة الغار ليبول ، ولم ير شيئاً ، فيقول أبو بكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم : يا رسول الله لو نظر أحدهم تحت قدميه لرآنا . فكان ستر الله لهم بجنوده التي لا يعلمها إلا هو ( وما يعلم جنود ربك إلا هو ) . ومن المعلوم أن الهجرة سبقتها هجرة الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين إلى الحبشة ، لما اشتد العذاب بالمؤمنين ، فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يهاجروا إلى الحبشة معللاً ذلك : إن فيها ملكاً لا يظلم عنده أحد . وهاجر بعض الصحابة واستقروا بالحبشة في كنف الملك العادل والذي هداه الله إلى الإيمان ، فآمن بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم ، وما أنزل من قبل على موسى وعيسى بن مريم عليهما السلام ، ليأخذ أجرهم مرتين . ووصلت المهاجرين إلى الحبشة إشاعة تقول : إن قريشاً آمنت ودخلت في دين الله ، فرجع أغلب المهاجرين ، وبقي القليل ، إلا أن الذين عادوا إلى مكة المكرمة وجدوا قريشاً أكثر شراً وكفراً مما كانت عليه ، حتى امتدت أيديهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالإيذاء ، ودبروا له المكائد ، وأطلقوا عليه الألقاء التي يستحيون هم من إلصاقها إلى أنفسهم ، فكيف بسيدهم وعميدهم . ومن العجيب أن الله سبحانه وتعالى لا يوفق المشركين ولا المجرمين ، فيجعلهم يقعون في شر أفعالهم وأقوالهم . فها هي قريش تطلق على رسول الله صلى الله عليه وسلم صفة الكذب والخيانة ، وهم الذين كانوا يصفونه حتى الساعة بالصادق الأمين ، وكان أحدهم إذا خاف على شيء عنده من السرقة أو الحرق أو النهب لم يجد أحداً يضع أمانته عنده إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم . ألم تروا أن رسولنا محمداً صلى الله عليه وسلم عندما هاجر ، ترك علي بن أبي طالب رضي الله عنه وهو ابن عمه يبيت في بيته ليوهم الكفار بوجوده  في البيت ، وليرد الأمانات التي كانت للمشركين محفوظة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكيف تصفونه بصفات أنتم تفعلون ضدها ؟!!! وكذلك كان أبو لهب ( عبد العزى بن عبد المطلب ) عم النبي صلى الله عليه وسلم كان يسير وراءه في مواسم العرب وأسواقها حيث كان النبي يدعو الناس إلى عبادة الله ، ونصرة رسوله صلى الله عليه وسلم حتى يبلغ رسالة ربه ، فكان أبو لهب يسير خلفه ويقول للناس : لا تصدقوه ؛ هذا مجنون قريش ، ومفرق جماعتها ، وأبو لهب نفسه يعلم أنه كاذب فيما يدعيه على ابن أخيه صلى الله عليه وسلم ، ولكنه (أبو لهب ) كان يخشى أن يستمع إليه العرب ، فيعجبون بكلامه ، ويؤمنون به ، ويصدقونه ويصبحون درعاً له وردئاً ، لأنه ما استمع إليه قوم إلا وأعجبهم كلامه ، ودخل في قلوبهم منه ما يجعلهم يفكرون به ملياً . وهذه شيمة الأعداء في كل زمان ومكان ، إنهم يقلبون الحقائق ، بل يعيبون على المؤمنين صدقهم وأمانتهم ، وتوجه شبابهم إلى الله ومسجده ودور عبادته بدلاً من توجههم إلى الكازينوهات والسينمات وأماكن الله ، فهم يعيبون عليهم ما يفخرون به عند الله وعند الصالحين من عباده . ولما تآمر الكفار على قتل النبي صلى الله عليه وسلم في مؤتمرهم في دار الندوة بحضور الجن والإنس من الكفار والشيطان على رأسهم حيث حضر المؤتمر بصورة رجل عجوز نجدي لا يعرفه من أهل مكة أحد ، ولما سألوه عن سبب حضوره ، قال : علمت بمؤتمركم فجئت حتى أشارك ولا أعدمكم نصحاً . وهكذا مجرمو عالمنا اليوم يستعينون بشياطين الإنس من مخابرات البلدان الكافرة ، كي يحجموا من هذه الصحوة الإسلامية المباركة ، فإذا بهم يطلقون على أصحابها الأوصاف التي تنفر الناس منها ، ولكن الله سبحانه وتعالى الذي سخر لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم نفراً من الأنصار فاستمعوا إليه ، ووقر الإيمان في قلوبهم ، قد سخر لدينه رجالاً لايضيرهم كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من خالفهم ولا من ناوأهم إلى أن يأتي أمر الله . يتبع .

 

الهجرة ووعد بلفور (2)         6/11/2013م

قال تعالى : ( إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ۖ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَىٰ ۗ وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا ۗ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) التوبة 40 .

عرفنا كيف استعان الكفار المشركون بكل من كان عدواً لله ولرسوله وللمؤمنين من الإنس والجن ، ليضعوا سيناريو قتل محمد صلى الله عليه وسلم ، ولتشترك كل عائلات مكة وحواميلها في قتله ، حتى يتفرق دمه في القبائل ، ولكن الله الذي يعلم السر وأخفى أعلم نبيه بمخططاتهم ، وأمره أن يهاجر ، ولا يبيت في بيته الليلة القادمة ، وأخبر الصادق المصدوق صديقه أبا بكر رضي الله عنه ، وأعدا خطة الخروج من مكة المكرمة ، وأمنا الدليل الماهر الخريت ، والركائب منذ ثلاثة أشهر وهي محجوزة معلوفة ، وسارا ليلاً إلى منطقة الجنوب بدلاً من السير إلى منطقة الشمال حيث المدينة المنورة ، ليعموا على المشركين ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً . وقد أمرنا أن نعد العدة بقدر الاستطاعة قال تعالى : ( وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم ، وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم ) . رغم كل ذلك استطاع المشركون أن يصلوا الغار بما لديهم من علم قيافة الأثر ( الاستدلال بالأثر على الطريق وسالكها ) إلا أن رعاية الله سبحانه وتعالى كانت محيطة بالمهاجرين ، حافظة لهم من كل سوء . وكانت السكينة التي ذكرها رب العزة والجلال قد أنزلت على قلب المصطفى صلى الله عليه وسلم ، فأخذ يهدئ من روع أبي بكر الصديق رضي الله عنه ، ويقول له : " يا أبا بكر ؛ ما ظنك باثنين الله ثالثهما " قال تعالى : ( فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها ، وجعل كلمة الذين كفروا السفلى .) واستمر الركب والآيات تتجدد للصديق ولمن كان يطمع في الجائزة التي جعلتها قريش لمن يأتي بأي خبر يوصلهم به إلى محمد صلى الله عليه وسلم وصاحبه رضوان الله عليه ، حياً أو ميتاً ، فحادثة أم معبد وعنزتها المهزولة الضعيفة ، كيف ملئ ضرعها لبناً ، وشرب منه المهاجران ، وتركوا اللبن لأم معبد وزوجها ، ليكون لهم آية على أن الذي مر بخيمتهم ركب مبارك ، طاهر يفيض بالخير أينما حلت قدماه ، وإن كان مطارداً من قومه الذي أشاعوا أنه خارج عن الإجماع الوثني ، وأنه فرق جماعتهم ، وسفه أحلامهم وشتم آباءهم . بل إنه لا يخرج من فيه إلا حق ، ولا يترك أثراً إلا خيراً . وكذلك قصة سراقة بن مالك الجعشمي رضي الله عنه ، إذ كان حريصاً على أن يأخذ جائزة قريش ، وحاول واجتهد إلا أن الله سبحانه وتعالى أراد له جائزة أخرى ، هي أعلى وأجل من جائز أهل الأرض جميعاً ، فبعد أن لحق بالركب ، وحال الله بينه وبينهم ، رجع عيناً تحرصهم ، وترد عنهم كل طالب . فخيرة الله سبحانه وتعالى أعظم وأكثر خيراً للإنسان من خيرته لنفسه . فرجع سراقة بن مالك رضي الله عنه بخيري الدنيا والآخرة ، وعد بسواري كسرى ملك الفرس ، وهذا من خير الدنيا التي ينظر إليها الماديون الذين يريدون الحياة الدنيا ، ولا يعيرون شيئاً بالآخرة ، ثم عاد بخير الآخرة إيماناً يملأ قلبه ، ويقيناً بأن هذين المهاجرين محفوظان بحفظ الله ، وأن الله متم نوره ولو كره المشركون ، وأخذ ينافح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه ، بعد أن كان عدواً لهما يريد الدنيا من وراء الإتيان بهما أو بأحدهما . ووعد رسول الله صلى الله عليه وسلم صادق ، مصدق من رب السماوات والأرض . وفتحت بلاد كسرى ، ورجع السواران اللذان كانا يحيطان بمعصم كسرى ، ليحيطا من جديد بمعصم سراقة بن مالك الجعشمي . ونحن على يقين بأن الذي وعد الله في كتابه ناجز لا محالة ، محقق لا شك في ذلك . فالله سبحانه وتعالى وعد بنصر عباده ، حتى وإن تكالبت عليهم الأمم ، وتداعت كما تداعي الأكلة على قصعتها . ووعد الكفار المشركون أن يقتلوا محمداً ، وخابوا وخسروا ، ووعد المشركون أن يعطوا جائزة لمن يأتي بأي من المهاجرين حياً أو ميتاً مائة من الإبل ، وهي أغلى أموال العرب آنذاك ، وخابوا وخسروا ، ونجا الله رسوله صلى الله عليه وسلم ، وصاحبه رضوان الله عليه ، ورجع محمد صلى الله عليه وسلم بأصحابه المهاجرين والأنصار إلى مكة فاتحاً خلصاً لها مدرن الشرك إلى أبد الآبدين ، وكان ذلك بعد جهاد واستشهاد وإعداد في كل الميادين المعنوية والدعوية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية . واليوم وقدر الله أن تكون ذكرى هجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم مواكبة لوعد خبيث من خبثاء إلى أخبث أهل الأرض ، بأن يعطوهم أرض فلسطين المقدسة الموقوفة على المسلمين جميعاً في مشارق الأرض ومغاربها ، لتكون وطناً قومياً ليهود . وسيخيب ظنهم ، ويطيش سهمهم ، ويكشف مكرهم ، وسيقف المؤمنون لهم بالمرصاد حتى يزول كل أثر لهذا الوعد الخبيث . ولقد اصطفانا الله سبحانه وتعالى لنكون سدنة لهذه الأرض المقدسة ، لنحميها ، ولا نمكن يهود من الاستقرار فيها حتى يحين أمر الله بإعادة المسلمين إلى حياض دينهم ، وشرفهم الرفيع ، فيحرروا أنفسهم ، فتتحرر أراضيهم تلقائياً بإذن الله سبحانه وتعالى .

ولنكن على يقين أن وعد الله بالنصر منجز إلى الأبد ، وأن وعد بلفور مبتور وهو إلى أمد ، وها هي علامات أفوله قد بدت بالنهضة الإسلامية الكبرى ، وعودة الناس إلى دينهم ، ونبذ كل الأصوات الناعقة ، والمفرقة . وإن من دروس الهجرة النبوية الشريفة أن الله يسخر لنصرة دينه جنوده التي لا يعلمها إلا هو ( وما يعلم جنود ربك إلا هو ، وما هي إلا ذكرى للبشر.)

موقع فضيلة الشيخ

http://www.ssalameh.ps/ar /

صفحة الشيخ بالفيس بوك

https://www.facebook.com/wwwssalamehps