ما أن انتهيت من المشاركة في برنامج «صباح الخير ياقدس»، والذي كان يبث عبر فضائية فلسطين صباح كل يوم جمعة من غرفة صغيرة بالطابق الأرضي بالمنتدى، حتى دعاني الراحل هشام مكي لتناول فنجان من القهوة في مكتبه الملاصق للغرفة الصغيرة، أثناء الحديث تساءلت إن كان وقت الرئيس يسمح بأن القي عليه تحية الصباح، عبر مكالمة هاتفية قصيرة مع مدير مكتب الرئيس، جاءت الموافقة شرط ألا يقترن ذلك بموضوع، صعدت سلالم المنتدى المؤدية إلى مكتب الرئيس في الطابق الأول، ودون مقدمات أو انتظار وجدت نفسي أصافح الرئيس، كانت ملامح وجهه التي غابت عنه الابتسامه تختصرها نظرة ثابتة إلى الأعلى، وصمت مطبق يخيم على المكان رغم وجود البعض من القيادات، حاولت أن أغادر المكتب كما فعل الغير إلا أن القائد اشار بيده أن أجلس، اتخذت مقعدي دون أن أهمس بكلمة تماشياً مع مركبات المشهد.
على غير المعتاد، القليل من القيادات جاءت لإلقاء التحية ثم انسلت بهدوء، فيما الرئيس يتملكه التفكير مع الذات ونظرته الثابتة ما زالت على حالها، بدأت أدرك أن الشرط الذي وضعه مدير مكتبه له ما يبرره، خاصة مع تدافع المعلومات التي كانت توضع أمامه سواء كانت مكتوبة أو مقتضبة يدلي بها على عجالة من جاء بها، إذاً الأمر يتعلق بالتهديدات المتلاحقة التي أطلقتها قيادات في حكومة الإحتلال، كانت مدينة القدس المحتلة قد شهدت عملية تفجير أودت بالعديد من القتلى، لم يعلن أي من الفصائل الفلسطينية تبنيه للعملية كما جرت العادة، بل أحياناً كنا نجد أكثر من فصيل يعلن مسؤوليته، لعل عدم تبني الفصائل الفلسطنية لتلك العملية دفع القيادة للإعتقاد بأن اليمين المتطرف الاسرائيلي هو من يقف وراء ذلك لنسف جهود السلام، المهم صباح يوم الجمعة أعلنت حكومة الاحتلال أسم الاستشهادي الفلسطيني منفذ العملية، ومعه تلاحقت التهديدات الإسرائيلية التي تحمل الرئيس عرفات المسؤولية، وحملت البعض منها المطالبة بإغتياله ردا على العملية الاستشهادية في القدس.
حاولت مراراً أن أنصرف بعد الاستئذان إلا أنه كان يشير بيده أن أبقى، كان آخرها عند إقتراب موعد صلاة الجمعة، إلا أنها كانت على غير سابقاتها، حيث بادر بالقول: «تصلي وتتغدى ثم تنصرف»، يبدو أن تلك الكلمات كسرت حاجز الصمت الذي إمتد لساعات، عاد بعدها ليسأل عما حدث لمشروع الصرف الصحي بمدينة خان يونس، أجبته أن اليابان أنهت إعداد الدراسات المتعلقة بالمشروع، إلا أن التصريحات المتعلقة بتنفيذ المشروع ما زالت للاستهلاك المحلي، لذا أخذنا على عاتقنا البدء بتنفيذ المشروع على مراحل وفي الوقت ذاته سنحافظ على الاتصال مع اليابان لحثها على التمويل، تبسم الرئيس وقال: «على بركة الله»، وأتبعها بجملة «اكتب ذلك لي»، أيقنت لحظتها أن الرئيس لا يتابع فقط ادق التفاصيل بل أن المسؤوليات الجسام الملقاه على عاتقه مهما عظم شأنها لا تحول بينه وبين متابعة هموم شعبه.
ذهبنا إلى صلاة الجمعة ومنها إلى تناول الغذاء، كان من الواضح أن التهديدات التي أطلقها العدو بما فيها تلك التي حملت طابع الاستهداف الشخصي له لم يستقر منها شيئاً في وجدانه، فحين تناول أحد الحضور آخر تهديدات العدو التي يطالب فيها بقصف المنتدى، تبسم الرئيس قائلاً « ياجبل ما يهزك ريح»، حينها أخذ يمازح الجميع وتحول معها إلى الأب الذي يحرص على إطعام أبنائه، أخذ يتناول مما على المائدة ويقدمه تباعاً للحاضرين، رافقها ببعض الكلمات التي أشاعت في المكان الجو الأسري الذي لطالما عمل على تثبيت قواعده.
وأخذت أسترجع تلك الساعات وأنا أمضي عائداً إلى البيت، لأقف عند حقيقة لا يمكن لأحد أن ينكرها، أن الزعيم والقائد والرئيس والأب إجتمعت في هذا الإنسان ليتحول بها إلى جبل شامخ من جبال فلسطين المطلة على ربوع الوطن.