من شهر كانون اول وحتى شباط من كل عام تتكثف الاحتفالات والمهرجانات بإنطلاقة أغلب الفصائل الفلسطينية الجبهة الشعبية تاج اليسار وفتح اول الرصاص واول الحجارة وحماس ووقفية فلسطين من النهر الى البحر والجبهة الديمقراطية صاحبة البرنامج المرحلي وحزب الشعب الحجر الذي رفضه البناؤون أصبح الأساس...الخ،وطبعاً في ذكرى إنطلاقاتها تستنفر تلك الفصائل وتوظف الأموال حتى لو إستدانت من اجل أن تثبت حضورها وجماهيرتها،ولا تنسى في هذه المهرجات والإحتفالات ان تمجد الشهداء والقادة لحزبها او تنظيمها وتمر على القادة الشهداء للفصائل الأخرى وتفتخر ببطولات القادة وتشيد بالأسرى ونضالاتهم،وتقوم بعمليات تكريم لعدد من اهالي الأسرى والشهداء بهدايا رمزية، وتستحضر كل التاريخ القديم او عملياتها النوعية الموسمية،لكي تاكد على دورها النضالي والكفاحي،ولكي يشفع لها هذا التاريخ والأرث،في ظل ما تشهده من تراجع وإنفضاض للجماهير والأعضاء من حولها،وما يعنيه ذلك من تآكل وقضم وضياع لهيبتها وصدقيتها وفقدان شعبيتها وجماهيريتها...وتردد نفس الكلمات والعبارات منذ بداية إنطلاقتها وحتى آخر احتفال تقيمه، ثورة ثورة حتى النصر ولا بديل ولا تنازل عن الثوابت الوطنية ولا للتفريط ولا للتنازل عن حق العودة،والقدس خط احمر وعاصمة أبدية للدولة الفلسطينية،طبعاً في الإطار الشعاري والنظري ودغدغة المشاعر والعواطف،ولكن على مستوى الفعل والترجمة يؤجل لترداده في الإنطلاقة القادمة وهكذا دواليك وتنتهي المسرحية والإحتفال،والتي همها بالأساس مدى الحشود الجماهيرية التي جاءت لحضور الإحتفال والتي في أغلب الأحيان تسير الفصائل حافلات ووسائل نقل من اجل إحضارها،لكي يؤكد المتحدثون وقادة الفصائل المنطلقة والمحتفلة على صدقية خطهم ونهجهم ومدى التفاف الجماهير حولهم وتبنيها لبرنامجهم وفكرهم،والتي اجزم ان اغلب الأعضاء وجزء من القيادات لا يعرفونه او يستوعبونه،ويتفرق الحضور على امل ان ينعم شعبنا بالحرية والإستقلال في السنة القادمة،مع تاكيد للشهداء والأسرى والقادة بالسير على هديهم ونهجم وقيمهم ومبادئهم.
وتاتي الإنطلاقة القادمة ونقف امام نفس الأصنام والذين مضى على وجود البعض منهم اكثر من اربعين عاماً،وكأن حزبه او تنظيمه لم ينجب "جهبذ" او نابغة غيره،ورحيله يعني موت حزبه او تنظيمه او هزيمة الثورة المهزومة اصلاً،او بغيابه يفقد حزبه البوصلة والإتجاه،وهذا يثبت ابوية الأحزاب وارتهان قراراتها وسياستها وبرنامجها ومواقفها لشخص او شخوص وليس مؤسسة حزبية او تنظيمية.
المصيبة والطامة الكبرى،ان كل القوى والفصائل والأحزاب الفلسطينية بمختلف ألوان طيفها السياسي وطني وإسلامي في ذكرى إنطلاقاتها،وضيوف الفصائل المدعون لإلقاء كلمات التمجيد في تلك الذكرى،يكثرون من السجع والطباق والجناس والإنشاء والبلاغة والتمجيد،وتحقيق الإنتصارات وصحة البرنامج والمواقف والتمسك بالثوابت والمواقف،ولا نسمع كلمة واحدة من أي قائد لأي تنظيم عن ان حزبه او تنظيمه اخطأ في موقفه في القضية الوطنية او السياسية او عدم اهتمامه بالجماهير،اوعدم قدرته على التوسع والإستقطاب،او ان برنامجه ومنطلقاته السياسية والفكرية والتنظيمية،بحاجة جادة الى تغير وتطوير،أو ان قيادته او جزء منها لم تكن بمستوى التحديات التي تواجه حزب،او انها السبب فيما وصلت اليه اوضاع حزبه او تنظيمه ..الخ،او لماذا لم ننجح حتى الان في تحقيق حلم شعبنا في الحرية والإستقلال؟،ولماذا نخرج من إخفاق الى آخر؟؟،ومن هزيمة الى هزيمة اكبر؟؟والف لماذا ولماذا..؟
القضية أعمق من التشخيص والقول بأننا نعيش في ازمة،او ان الواقع والظروف الموضوعية مجافية،بل ان المراجعات لا تطال الجوهر،وعلى الغلب تجري مراجعات شكلية و"تسليك" حال،ولا يتم الوقوف بجرأة امام الأخطاء والإخفاقات، فكل الفصائل وبدون إستثناء تجد نفسها امام أزمات سياسية وفكرية تنتج ازمات تنظيمية،تتجذر وتتعمق،وتصبح شاملة،ويتحول التنظيم الى حالة هلامية، أبعد ما تكون عن التنظيم،وتحل العلاقات العشائرية والجهوية والتكتلات والشللية محل العلاقات والأصول الحزبية،والتوسع والإستقطاب فيها لا يجري على أساس حزبي وتنظيمي بقدر ما هو عشائري،وتتعرض وحدة التنظيم الداخلية الى الإهتزاز، والموقف الحزبي او التنظيمي يعبر عنه خارج إطار القنوات التنظيمية والحزبية من خلال"الثرثرات"والعلاقات الشخصية.
انا لا اعرف كيف لتنظيمات عمرها أربعة عقود او ما يزيد،حتى اللحظة الراهنة،تريد ان تحدث نقلة نوعية في اوضاعها،وان تنتقل الى احزاب جماهيرية،بدل نخبويتها الطاغية،ولم تستطع ان تتقدم خطوة واحدة على هذا الصعيد،وتتحدث عن التوسع والتطور في مجمل اوضاعها وعلاقاتها وتحالفاتها،وهي تعتقد بأن احزابها بمثابة "التابو" الذي يجب ان لا يجري عليه أي تغير او تطوير،معتبرة انه الهدف وليس الوسيلة،فشارون هو من أسس الليكود،وفي لحظة عندما شعر بان الليكود سيقف عائقاً أمام مصالح الدولة والمشروع الصهيوني،عمد الى الخروج منه وهدمه،وبناء حزب جديد،دون ان يكون شارون لا خائناً ولا مرتزقاً ولا مرتبطاً بدولة اجنبية،او مغلباً لمصالحه الخاصة على مصالح الحزب،وكذلك فعل بيرس من قبله وغيره الكثير من زعماء الأحزاب الإسرائيلية.
اما نحن فالعديد من احزابنا الفلسطينية،حتى اللحظة الراهنة بقيت شعبيتها وجماهيريتها،حول 1% أو 2 %،بل ربما تراجعت الى ما دون ذلك،لم تقدم أي تفسير علمي او منطقي لهذا التراجع او حالية الضياع و"التوهان" التي تعيشها،وأسباب ازمتها العميقة والمستفحلة،بل في إنطلاقتها تتحدث عن صحة نهجها وخيارها وبرنامجها واستراتيجيتها،وبانها تعيش حالة تقدم ونهوض.
ومن هنا أرى بان تكون إنطلاقات الفصائل،عدا عن الجانب الإحتفالي،ان تمتلك الفصائل الجرأة فيها،وتتحدث عن اخطائها،وعن فشلها في إستيعاب التطورات والتغيرات الحاصلة،او ان برامجها غير منسجمه مع واقع الجماهير وهمومها،ولا تعبر عنها وعن طموحاتها،وان الخلل في رؤوسها القيادية المتكلسة والمتنمطة،والتي شاخ جزء منها لحد الخرف،هي من تقف عائقاً امام حالة نهوض جدي وحقيقي في اوضاعها.