منذ أكثر من أسبوعين استقال الوفد المفاوض الذي يضم صائب عريقات ومحمد شتيّة، في حين أعلن الرئيس أبو مازن عن هذه الاستقالة في نفس الوقت الذي أعلن فيه عن التزامه باستمرار المفاوضات لاستكمال مدة الأشهر التسعة مهما حصل، وأنه سيحاول إقناع الوفد بالعدول عن الاستقالة، وإذا عاد عنها كان به، وإذا لم يعد سيشكل وفدًا جديدًا.
وبهذا التصريح الرئاسي يتم إجهاض الهدف الرئيسي من هذه الاستقالة لحث الإدارة الأميركيّة والأطراف المؤثرة على القرار الدولي والمهتمة باستقرار المنطقة وأمنها على التدخل لإنقاذ المفاوضات قبل انهيارها عبر الضغط على الحكومة الإسرائيليّة لإبداء المرونة؛ من خلال الاحتجاج على التوسع الاستيطاني السرطاني وبمعدلات غير مسبوقة، وعلى عدم تقدم المفاوضات التي أدخلها الوفد الإسرائيلي في دوّامة لا تنتهي من البحث عن الترتيبات الأمنيّة التي يجب الاتفاق عليها أولًا قبل الاتفاق على الحدود؛ لضمان أن تأتي خارطة الحدود على مقاس خارطة الأمن الإسرائيليّة.
تقرع استقالة الوفد الفلسطيني جرس الإنذار، وتنذر بما سيكون إذا لم يتم التحرك سريعًا لإنقاذ المفاوضات قبل انهيارها التام.
إن الاستقالة التي أشارت إليها الأنباء بعد اجتماع اللجنة المركزيّة لحركة فتح يوم الأحد الماضي لا تزال سارية، ولكن الوفد المستقيل سيستمر بتسيير المفاوضات إلى حين تشكيل وفد جديد. "اللي يعيش في رجب يرى العجب". ونحن الآن أصبحنا نرى العجب العجاب بحيث لم يعد لدينا فقط حكومة تسيير أعمال تستمر لسنوات كما حدث مرارًا منذ تأسيس السلطة الفلسطينيّة، بل أصبح الوفد المفاوض وفد "تسيير أعمال" وقد يستمر مستقيلًا ومسيّرًا للأعمال في نفس الوقت طوال مدة الأشهر التسعة وربما أطول.
بالرغم من ذلك فإن الاستقالة: إما أن تكون مجرد مناورة هزيلة تتناسب مع الضعف الفلسطيني ومع الموافقة على استئناف المفاوضات وفق الشروط الإسرائيليّة، وهي تكرار لظاهرة "الاستقالات" التي ليست استقالات فعليّة، مثلما أعلن سلام فياض أكثر من مرة أنه وضع استقالته بتصرف الرئيس، ومثلما فعل أيضًاً صائب عريقات بعد تسرب الوثائق من دائرة المفاوضات منذ أكثر من عامين ولا يزال على رأس عمله. إن الذي يريد أن يستقيل يستقيل فعلًا ولا ينتظر موافقة الرئيس على الاستقالة.
أو أن الاستقالة ناجمة عن وصول عريقات وشتيّة إلى مرحلة "القرف" و"وجع الضمير" من المشاركة في مفاوضات وصفها عريقات نفسه في مقابلة أخيرة بأنها مفاوضات "إسرائيليّة - إسرائيليّة"، أي مفاوضات بين رئيس الحكومة ووزرائه وليست مفاوضات فلسطينيّة - إسرائيليّة، فالوفد الفلسطيني مجرد كومبارس لا أكثر. وفي هذة الحالة يريدان الاستقالة فعلًا حتى لا يتحملا المسؤوليّة التاريخيّة أمام الشعب.
الأيام القادمة ستقدم الجواب فيما إذا كانت الاستقالة جديّة لا رجعة عنها أم مجرد مناورة لا تملك فرصة جديّة لتحقيق أهدافها ما دام ترافقت بالالتزام باستمرار المفاوضات مهما حصل. أشارت مصادر إعلاميّة إلى أن عريقات سيعدل عن الاستقالة بينما شتيّة مصمم عليها وستحمل لك الأيام القادمة الخبر اليقين.
بغض النظر عن الاستقالة ومصيرها إلا أنها كشفت الصورة الحقيقيّة للمفاوضات كما لم يحصل من قبل، وكيف أنها جاءت في ظل عدم قناعة القيادة الفلسطينيّة وقسم كبير من المعارضة بوجود بديل حقيقي عملي من المفاوضات الثنائيّة، التي تبدو أمرًا لا مفر منه وتحصيل حاصل للأوضاع السياسيّة والاقتصاديّة والأمنيّة المتبلورة بعد أكثر من عشرين عامًا على "اتفاق أوسلو"، الذي لم يعن مجرد اتفاق سياسي، وإنما نجم عنه واقع جديد يفرض نفسه على الفلسطينيين، بحيث لا يمكن بناء خيارات جديدة من دون حسم ضرورة تجاوز هذا الواقع بأسرع وقت ممكن، وإن بشكل تدريجي، عبر بناء البديل منه خطوة خطوة حتى نصل إلى نقطة يمكن فيها إجراء تحول إستراتيجي شامل.
كما جاءت الاستقالة لتقدم برهانًا جديدًا على أن المفاوضات المستأنفة محكوم عليها بالفشل أو بالتوصل إلى حل لا يستجيب للمصالح والحقوق الفلسطينيّة (انتقالي جديد مغطى أو غير مغطى باتفاق نهائي)، أو أنها ستقود إلى حل أحادي الجانب تنفّذه إسرائيل العام القادم أو بعد ذلك بعد استكمال بناء جدار الفصل العنصري؛ حتى لا تتعرض لانتقادات دوليّة تحملها مسؤوليّة فشل المفاوضات، أو لاحتمال فرض حل أميركي بغطاء دولي طالما حذرت منه تسيبي ليفني، رئيسة الوفد الإسرائيلي المفاوض، وقالت إن حلًا متفقًا عليه بين الفلسطينيين والإسرائيليين تتحكم به إسرائيل والولايات المتحدة أفضل لإسرائيل من حل "دولي" يفرض على الطرفين.
كان المطلوب ولا يزال وقف المفاوضات التي لم يكن صحيحًا استئنافها بهذا الشكل، ولكن وقف المفاوضات شأنه شأن استئنافها لا يوقف الاستيطان ولا مجمل الإجراءات الاحتلاليّة لوحده. فإسرائيل ليست جاهزة للتسوية وتهدف من خلال إجراءاتها وأفعالها إلى ضم أكبر مساحة ممكنة من الأرض، وطرد أكبر عدد ممكن من السكان، وإقامة "إسرائيل الكبرى" بصورتها الجديدة، التي تضم سلطة حكم ذاتي فلسطينيّة لإدارة شؤون السكان الفلسطينيين ومنع قيام دولة واحدة تكون نسبة الفلسطينيين فيها كبيرة تتحول إلى أغلبيّة خلال سنوات قليلة وتمس بإسرائيل بوصفها "دولة يهوديّة"؛ ويمكن السماح لسلطة الحكم الذاتي بأن تسمي نفسها ويسميها العالم كله "دولة فلسطينيّة".
المطلوب أكثر بكثير من المشاركة في المفاوضات أو الانسحاب منها، يبدأ بتنظيم حوار وطني شامل يشارك فيه مختلف القوى والتيارات والفعاليات السياسيّة وممثلو التجمعات الفلسطينيّة المختلفة والكفاءات والشباب والمرأة . حوار لا يطغى عليه البحث في كيفيّة تطبيق الاتفاقيات المبرمة حول إنهاء الانقسام واستعادة الوحدة، لأنها لم تؤد إلى تحقيق الهدف المرجو منها، وتعاني من ثغرات كبيرة لا بد من معالجتها، وإنما إجراء مراجعة عميقة وشاملة للتجارب السابقة، من أجل وضع تصور متكامل لكيفيّة مواجهة التحديات والمخاطر التي تهدد القضيّة الفلسطينيّة والشعب الفلسطيني، وتوفير المتطلبات الضروريّة لحماية الشعب الفلسطيني والكفاح من أجل تحقيق أهدافه وحقوقه الوطنيّة.
في هذا السياق يكون إنهاء الانقسام واستعادة الوحدة على أسس وطنيّة وديمقراطيّة وشراكة حقيقيّة ليس مجرد خيار من الخيارات وإنما ضرورة لا غنى عنها ونقطة انطلاق لا بد منها، وهو هدف ليس معزولًا عن إعادة تعريف المشروع الوطني بعد مرور عقود من الزمن شهدت مستجدات وحقائق جديدة وخبرات مستفادة وأخطاء وتنازلات جسيمة ومكاسب كبيرة؛ كخطوة لا بد منها من أجل إعادة بناء الحركة الوطنيّة والتمثيل الفلسطيني والمؤسسة الوطنيّة الجامعة، وبرنامج القواسم المشتركة.