رحابة الحقيقة لا سطوة الزيف

الحيرة سيدة الموقف ، فالخلط الحاصل في كل شيء زلزل أفهام العقلاء فكيف بعامة الناس الذين سيقوا من موطن الخير فيهم ليكبون في مصائد الشيطان ، فخدام ابليس لم يعودوا يقنعون بالاحاد من الناس و جشع الغواية جعلهم يستلبون شعوبا و امما و جماعات عبر مكائدهم التي يتقنون عرضها و يحسنون تجميلها لتجد لها شراة كثر من أعالي القوم ومن أوساطهم و من أدناهم .

وأكثر خدام ابليس إنحطاطا هم الذين يقدمون الزيف على شكل حقيقة و الوهم تحت مسمى تقارير ومعلومات ولا أتكلم هنا عن الأجهزة الأمنية صاحبة الوسائل العتيقة فقد جاءنا من هم أكثر دهاء و أقذر غاية فالوسائل الإعلامية التي تتصدر حياة الناس هي في أغلبها ماكنات ضخمة تنتج كل ما يزيدنا شقاءاً ويصيبنا بالبلاهة تحت عناوين براقة كالرأي والرأي الآخر و الحقيقة و الحرية و هي لا تمانع أن تقدم لنا بعض الوجبات السريعة لشذرات الحقيقة ولكنها تحوطها بالمقبلات الحراقة التي تفسد صلاحية هذه الوجبة بل و تحولها إلا سم زعاف يصب في حلقوم من يتحلق حول الشاشة البراقة او حول الشبكة العنكبوتية او حتى من يستمع الى الاصوات النشاز التي تدوي على طوال الساعة .

عدونا قد فطن أننا نصدق كل ما يقال لنا و نزهوا بالمعلومات وننتقل بها وكأنها وحي إلهي إختصنا الله به من دون الناس ، فشعوبنا تنتشي بالقول لانه يرفع عنها عار نكوصها عن الفعل ، وهذه النشوة تتشابه و نشوة اللقاء بين المتضاجعين ولكن المتلقي ليس الا الطرف (المضجوع) المفعول به دوما ، وحالة الانفعال التي نحياها جعلتنا ألعوبة ملاك القوة في العالم و أصحاب السلطة ، ولكن عدونا الذي لا يحبنا مثالا واحد حتى ونحن نستلم ثقافته إستلام الذليل و المستكين الراضي ، فقد أرادنا عدونا متباينين في وضعية ضجعتنا أمام ما يصبه في أدمغتنا ولكنه تباين يضفي بهجة التنوع لا تباين يخرجنا عن حالنا المنفعل ، وهذا التباين الذي زادنا حسرة و اسف لم بكن بسبب العوام المضللين في أكثر الأوقات ولم يكن بسبب أهل المصالح من التجار و المرتزقة .

فقد كانت علتنا و موطن بلاءنا ممن قدموا أنفسهم كعلماء ومرشدين و قدمناهم كنخب ووعاة ، نستفتيهم ان غم علينا الامر و نرجع اليهم عند الحيرة و الارتباك و نفر اليهم في الكروب و الملمات ، كيف ولا وهم من استبطن المعارف و غاص في التجارب فهم من حفظوا نصوص الله عن ظهر قلب و خبروا منهج الرسل و تتبعوا أثر الصالحين ، كيف لا وهم زادنا عندما تجدب عقولنا من العلم و أئمتنا عندما تتشابه علينا الطرق ، ولكن ما تلوناه عليكم آنفاً هو ما يجب أن يتمثلوه وليس واقع حالهم .

فالواجبات قد هدمت ركنا ركنا و عرى الحق قد انحلت عروة عروة ، واول هذه الواجبات سقوطا كان مقام العلماء الذي سطى عليه اللصوص من مدعي العلم في السابق و أستلبه الجهولين في هذا الزمان ، فابليس اللعين وخدامه إستنفذوا كل الوسائل و أستولوا على منابر الهداية ليحولوها إلا أفخاخ يصطادون رغاب الاستقامة ، و من يظنون أنفسهم حماة للدين و ملاك الحقيقة و المصطفين من العباد ، من يتصدرون المشهد اليوم من العلماء و الوعاظ والخطباء و نجوم الدعاة على الشاشات المرئية و المنشدين و أصحاب القلم لم يكونوا في غالبهم إلا ممثلين عن عوام الناس لا يقولون الا ما يطرب له الناس و لا يكتبون الا ما ينسجم مع النشوة التي تسيطر على المجموع .

فأهل الرأي واجبهم الاصيل ان يقدموا الرأي المستند على العقل و التجربة والمستنير بالاخبار الصحيحة و الذي لن يفارق المفهوم الصحيح للنصوص المعصومة ، ولكن غالب أهل الرأي أصبحوا خاضعين لسلطة الرأي العام الذي ابتنى مواقفه من خلال إستلامه الخبر الكذوب او الخبر اللعوب والتي هي من منتجات وسائل الاعلام التي تسحر البسطاء و تخدع الساسة و تضلل اصحاب اللحى ، كان واجب العلماء ان يقفوا سدا منيعا امام تغول الخطأ والجريمة و ان يكشفوا التناقض و ان يكبحوا سطوة القوة و ان ينزعوا علل العنف و الأذى ، ولكن إذ بهم يشاركون في كل ذلك بل ويزيدون الحريق لهيبا برميهم حطب جهنم المهدى اليها من السادة ولاة الامر او الكبار من أصحاب القوة .

هذا هو واقعنا ، هذا ما يحيط بنا، هذا هو تشخيصي للعلل التي وراء امراضنا ، و من يظن أنني اقدم نفسي كمالك متفرد للحقيقة فهذا لا يعبر الا عن ندية من طرفه ويجعل إتهامه يرجع له ، فكل ما قصدته من هذه الصورة التي قدمتها عن ما نحياه هو أن نلتفت إلا أنفسنا و نحيي مداركنا و نعقل ما يحيط بنا و ألا ننتظر كذاب أشر ليعظنا أو يحدد لنا ماذا يجب ان نفعل و ما هو فحوى القول الذي يليق بنا ، هذا الخلط الذي ملأ ذرات وعينا نحن الذين تسببنا به عندما عطلنا مقدراتنا لحساب الوجبات الجاهزة التي أوضعوا فيها السموم و حشوها في أدمغتنا حشواً وقد قبلنا أن نحتسي من بعدها أكواب الخمرة التي أذهبت ما بقي من يقظتنا .

،كان بامكاني ان ادلل على مئات السموم التي تنفثها في وجهنا وسائل الاعلام القميئة أو تطلق علينا من المدافع المنصوبة على المنابر وبجوار أعمدة دور العبادة ولكن ذلك سيزيدني كئابة وانا لا أقدر على المزيد ، فقد قمت بالغاء القنوات الاخبارية المتشحة بالعباءة و الشماغ لاني لا ارتضي بالمترهلين و المنتفخين و الاعراب و اصحاب اللحى المأجورة و الكذبة من أدعياء العلم والتجربة و الاشرين

من رجالات السياسة الذين يمتهنون لعبة الكروت المخلوطة والذين ما لعبوها إلا ليخبئوا عدونا عن أعيننا و يصوروا لنا عدوا جديدا هو في الحقيقة أفضل من فينا .

لا عذر لمعتذر بالقول أن هذا ما عليه الناس ، فخالقنا امدنا بالمدارك و المقدرات التي لا بد ان تصل بنا الا الحقيقة حتى ولو طالت مسيرة طلبه ، طلب الحقيقة يبدأ بأن نتجرد من أنفسنا وما نحمله من سابق ، طلب الحقيقة يدوم أن أعملنا عقولنا في ما يقدم لنا فالحقيقة لا تناقض فيها ، طلب الحقيقة يقوم على المبدأ لا على الشخوص ، طلب الحقيقة لا يتوقف فهو متجدد ولا نهاية لمسرته ، فاختاروا بين أن تكونوا طلابا للحقيقة أحرار ، أو منفعلين بالزيف الذي يحيطكم عبيد لرعاته .

اللهم أسبغ علينا نعمة أن نعي وأن نعمل وفق وعينا و أن نصبر على ما يلحق بنا والحمد لله في الأول و الآخر .