اشياء كثيرة تجري في مصر هذه الايام تستعصي كليا على الفهم، فهمنا نحن على الاقل، مثل السماح لقوات الامن باقتحام الجامعات، واعادة النظر في قرارات عفو اتخذها الرئيس محمد مرسي وحكومته، وسحب الجنسيات التي منحتها السلطات في عهده الى بضعة مئات من الفلسطينيين.
قضيت اربع سنوات طالبا في جامعة القاهرة في الفترة من 1970 الى 1974، اسوة بالالآف من العرب والمسلمين الذين فتح لهم الرئيس الراحل جمال عبد الناصر قلب مصر وجامعاتها ومستشفياتها مجانا، وكانت الجامعات تشهد في حينها ثورة طلابية لم يسبق لها مثيل ضد حكم الرئيس محمد انور السادات وسياسة الانفتاح الاقتصادي التي تبناها وكسرت ظهر الفقراء والمحرومين وهم الاغلبية الساحقة، وانحيازه الكامل لامريكا، وتلكؤه في خوض الحرب ضد اسرائيل لاستعادة الاراضي المحتلة في سيناء وقناة السويس والاراضي العربية الاخرى في الضفة والقطاع والجولان.
كان الطلاب وانا منهم يهتفون ضد الرئيس، ويغطون جدران غرف المحاضرات والممرات بصحف الحائط المليئة بالمقالات الجريئة في نقدها لسياسات الحكومة، وكان يأتينا متحدثون من الخارج مثل الشاعر احمد فؤاد نجم، والصحافية صافيناز كاظم، والنجم المسرحي صلاح السعدني وغيرهم، ولم يحدث مطلقا ان اقتحمت قوات الامن الحرم الجامعي، او اعتقلت طالبا او طالبة احتراما لقدسية الجامعات ومكانتها العلمية.
***
اقول هذا الكلام بمناسبة قرار الحكومة المصرية الذي صدر الخميس بالسماح لقوات الشرطة باقتحام الجامعات لمواجهة التظاهرات بدون الحصول على اذن مسبق تحت ذريعة تصاعد العنف، ومقتل طالب في جامعة الازهر.
بيان مجلس الوزراء قال انه “اتخذ هذا القرار استجابة لمطالب القاعدة العريضة من الشعب المصري بضرورة مواجهة الارهاب بكل حزم وقوة، وتوفير الامن والامان للمواطنيين واعادة الاستقرار الى الشارع المصري”.
لا نعتقد ان منع الطلاب من التظاهر داخل الحرم الجامعي، وبطريقة سلمية، يؤدي الى تهديد الاستقرار في الشارع المصري، بل يعطي نتائج عكسية تماما، فاذا كان هؤلاء رجال المستقبل، يمنعون من التعبير عن انفسهم ومشاعرهم، وايا كان موقفهم السياسي، فانهم سيتجهون نحو التطرف، وسيزدادون كراهية للدولة، وقيادتها، واجهزتها الامنية، والامثلة كثيرة في هذا الصدد.
هناك فرق كبير بين الاجراءات القانونية، والاخرى “الكيدية” الاقصائية، ومن الواضح ان الطلاب الاسلاميين، او المعارضين للانقلاب العسكري هم المستهدفون وينسى مجلس الوزراء الذي اصدرها ان هؤلاء مواطنين ومن الدرجة الاولى، وان الدولة مسؤولة عنهم مثلما هي مسؤولة عن حماية حقوقهم في التعبير عن انفسهم داخل جامعاتهم، وفي اطار القانون، وان اختلفوا معها.
النقطة الاخرى تتمثل في قرار الحكومة بالغاء مراسيم العفو التي اصدرها الرئيس السابق مرسي وحكومته عن بعض المحكومين، وسحب الجنسيات المصرية ممن حصلوا عليها في عهده ايضا، فمن المعروف ان الحكومات المحترمة تلتزم بكل الاجراءات والقوانين التي اصدرتها الحكومات السابقة، ولم نسمع ان “مجرما” محكوما بالاعدام في ظل حكومة سابقة وتم العفاء عنه، جرى تعليقه على حبل المشنقة بعد سنوات من الاعفاء لان الرئيس الجديد يريد ذلك، نكاية بمن قبله، سواء كان هذا في بلد ديمقراطي او استبدادي قمعي.
الرئيس الفعلي في مصر، الفريق اول عبد الفتاح السيسي يكره حركة “حماس″، لكراهيته لحلفائهم الاخوان المسلمين، وهذا من حقه ولا نجادله فيه، وقرار حكومته بسحب الجنيسات من الذين حصلوا عليها في عهد الرئيس مرسي هو ما نختلف معه فيه لانه يعود الى حالات فردية، ابرزها حصول السيد محمود الزهار، احد قادة الحركة عليها بالقانون لان امه مصرية، ومارس حقه كمواطن بالتصويت، او هكذا اعتقد، اثناء الانتخابات الرئاسية والبرلمانية التي جاءت بحكم الاخوان.
الحكم الجديد في مصر لا يعرف ان هناك عشرات الالآف من الفلسطينيين في قطاع غزة ولدوا من امهات مصريات، والقانون المصري يعطيهم الحق في الحصول على الجنسية المصرية مثلهم مثل غيرهم من ابناء المصريات المتزوجات من ازواج يحملون جنسيات عربية او غير عربية، وما الخطأ في ذلك، اليس هؤلاء عربا ومسلمين، الا يكفي الحصار الخانق المفروض عليهم، وحول غزة الى اكبر سجن في العالم، حيث اغلق الحراس معبر رفح دون اي شفقة او رحمة بأنين المرضى المحتضرين، ومن بينهم حفيدة اسماعيل هنية التي فتحت لها مستشفيات العدو ابوابها بعد ان اغلقتها نظيراتها المصريات.
لا اعرف ما هو الخطر الذي يشكله السيد الزهار او مجموعة من اعضاء حركة حماس، ومعهم مئات الفلسطينيين العاديين المحاصرين في قطاع غزة، وغير مسموح لهم دخول مصر، اذا ما احتفظوا بالجنسيات المصرية التي حصلوا عليها بطريقة شرعية، ووفقا لنص قانوني اصدره نظام الرئيس حسني مبارك.
***
ماذا يضير مصر الكريمة المعطاءة التي يزيد عدد سكانها عن تسعين مليون نسمة، ويولد فيها مليون طفل سنويا، لو ان الفا او الفين من الفلسطينيين من ابناء قطاع غزة، الذي كان خاضعا للحكم المصري لثلاثين عاما، حصلوا على الجنسية المصرية لان امهاتهم مصريات ابا عن جد؟ وماذا تستفيد لو سحبت هذه الجنسيات منهم لان رئيسهم لا يحب الفلسطينيين او جزءا منهم نكاية بالاخوان المسلمين ورئيسهم مرسي؟
لو كنت شخصيا مكان السيد الزهار، وبعض الفلسطينيين الآخرين الذين حصلوا على الجنسية المصرية، ويواجهون حتمية سحبها، لارسلتها الى وزير داخلية حكومة السيد الببلاوي، وسط باقة زهور مقرونة بكل الشكر والتقدير والعرفان بالجميل لمصر وشعبها وكل شهدائها الذين سقطوا على مدى ثمانية الالآف سنة خدمة للقضايا العادلة، وتوفيرا على هؤلاء عناء لي عنق النصوص القانونية التي توفر لهم الغطاء لمثل هذه الخطوة غير القانونية وغير الاخلاقية.
كنا نتمنى لو ان خريطة طريق الحكم الجديد الذي يقول انه وضعها من اجل الوصول لمستقبل ديمقراطي لمصر، يتساوى فيه الجميع، ويسوده التسامح والمساواة وحكم القانون، وتتسامى على مثل هذه “الصغائر” وترتقي الى تاريخ مصر العظيم الحافل بالمواقف المشرفة في نصرة الضعيف، وايواء المستجير، والانتصار للقضايا العربية والاسلامية العادلة مهما كلف الامر ذلك من تضحيات، ولكن ما نتمناه شيء، وما يحدث وسيحدث في واقع الامر شيء آخر.