روسيا تعيد التوازن للنظام الدولي

بقلم: عمار جمهور

بعد حوالي ثلاثين سنة من انهيار الاتحاد السوفيتي كقطب ثانٍ في الساحة الدولية، وبزوغ نجم الولايات المتحدة الأمريكية كنظام أحادي القطبية منفردٍ يعيش على تغذية النزاعات الدولية والطائفية لاستمرارية بقائه كقطب مهيمن على الساحة الدولية. استطاعت روسيا أخيراً أن تعود كقطب دولي مهم في الساحة الدولية والإقليمية وكلاعب رئيس في المنطقة الشرق أوسطية خاصة بعد اندلاع الأزمة السورية. فقد نجحت روسيا بعد عدة سنوات من الصراع مع الولايات المتحدة الأمريكية على الملف السوري والإيراني على وجه التحديد من أن تفرض ذاتها كقوة دولية لا يمكن تجاوزها وتخطيها في الساحة الدولية والإقليمية.

 

وسطر فلادمير بوتن في مقاله المعنون بـ "دعوة للحذر" ملامح النظام الدولي المطلوب وذلك بغية تجنب وقوع صدام مع الدول العظمى، وبغرض تجنب ضياع دور الأمم المتحدة كلاعب دولي مهم، خاصة في حل النزاعات والصراعات الدولية. واستطاع بإتقان ضرب الفكرة الأساسية التي تقوم عليها السياسة الخارجية الأمريكية والقاضية بتعميم ونشر الديمقراطية وتحقيق السلم العالمي. واستعرض الفشل الذريع الذي لحق بالولايات المتحدة جراء اتخاذها قرارات أحادية الجانب، خاصة فيما يتعلق بأفغانستان والعراق. كما طرح المقال أهمية الحفاظ على مؤسسات المجتمع الدولي كمرجع أساسي لفض النزاعات الدولية بطريقة لا تتيح للولايات المتحدة التفرد باتخاذ القرارات الدولية، وذلك من خلال احترام مؤسسات المجتمع الدولي وقراراتها.

 

المقال كان بمثابة إعلان رسمي لقيام روسيا باستغلال كافة الثغرات التي أحدثتها الولايات المتحدة في بنية النظام الدولي، والتي أعطتها ذريعة لإعادة تنظيم وترتيب العلاقات الدولية بمنظور جديد يختلف عما صار عليه الحال خلال فترة النظام الأحادي القطبية. فقد نجحت روسيا مؤخراً على أن تعمل على إعادة توازن القوى على الساحة الدولية للحفاظ على السلم والاستقرار الدولي. وتمكنت من أن تكون بمثابة صمام أمان النظام الدولي الذي باتت معالمه تتبلور بشكل واضح اليوم، وبرزت نتائجه من خلال التأثير على الولايات المتحدة الأمريكية بغرض وقف التدخل العسكري في سوريا خاصة بعد ما عرف بمجزرة الغوطة والتي راح ضحيتها حوالي 1500 شخص، والتي فتحت جدلا واسعاً على الساحة الدولية بشأن امتلاك الحكومة السورية أو المعارضة للسلاح النووي.

 

وكان لكل من الروايتين الروسية والأمريكية دوافعها وأسبابها ومنطلقاتها ومبرراتها. إلا أن المهم في الأمر أن روسيا استطاعت من خلال مبادراتها السياسية والدبلوماسية أن تمنع الولايات المتحدة الأمريكية من خوض الحرب بصورة منفردة ضد سوريا، على غرار ما حدث في العراق. وكان العنصر المهم هذه المرة هو فشل الولايات المتحدة من تضليل الرأي العام الدولي وخداعه، على عكس ما انتهجته لتبرير حربها على الإرهاب، فهذه المرة ظهرت الولايات المتحدة وكأنها ستخوض حرباً لنصرة الجماعات الإسلامية المتطرفة التي باتت تسيطر على الثوار السوريين. فالمقاربة ما بين دعم الثوار الأفغان ضد روسيا وما تلاه من تبعات كارثية على النظام الدولي ودعم الثوار السوريين وضع الولايات المتحدة وسياستها الخارجية على المحك.

 

أما بالنسبة للملف الإيراني فقد نجحت روسيا بدفع الدول الكبرى وإيران لاعتماد الخيار الدبلوماسي وتبنيه كحل للأزمة ونجحت في دفعهم للتوقيع على اتفاق دولي في جنيف بشأن الملف النووي الإيراني، والذي حاز على رضى واستحسان كافة الأطراف الدولية باستثاء إسرائيل والمملكة السعودية. وقد برهنت روسيا من خلال ذلك بأنها موجودة على الساحة الدولية بثقل وزخم لا يمكن تجاهله، واستطاع ان يكسر تفرد الولايات المتحدة باتخاذ القرارات الدولية ووضع حداً لغياب الرأي الأممي تجاه القضايا المصيرية في العالم.

 

يبدو جلياً الآن بأن روسيا اليوم اأوى من روسيا قبل ثلاثين عاماً فروسيا اليوم انتقلت من مرحلة الدفاع عن مصالحها إلى مرحلة جديدة من التحدي للحفاظ على مصالحها الحيوية في المنطقة. وبات ذلك واضحا في معالجتها للملفين السوري والإيراني فسقوط سوريا وضرب إيران انكسارات سياسية وعسكرية لا يمكن تقبلها من قبل روسيا. وكانت رسالة روسيا واضحة عندما تحدت العالم وزودت سوريا بالأسلحة التي تحتاجها، بالإضافة إلى المبادرة التي أخرجت ايران من مأزقها وخففت حدة العقوبات الملقاة على عاتقها.

ومن الأهمية بمكان الإشارة إلى أهمية العامل الشخصي في استعادة الدور الروسي على الساحة الدولية، فتغير القيادة الإيرانية المعادية للغرب، ووجود قيادة أكثر دهاء وحنكة في التعامل مع العالم لها أثر واضح على سير ومجريات السياسة الخارجية للدول. والشخصية المعتدلة التي يمتاز بها الرئيس الاأمريكي أوباما وعدم رغبته بخوض حروب جديدة انعكس بشكل واضح على السياسة الخارجية للولايات المتحدة في المنطقة. والعنادة التي يتحلى بها الرئيس الروسي وروح التحدي والمنافسة مكنه من أن يستعيد دور روسيا من جديد.

 

واستطاعت روسيا أن تنجح باستغلال الخلاف ما بين الجيش المصري والولايات المتحدة لاعادة ترسيم علاقاتها مع مصر كدولة محورية في الشرق الأوسط. وهذا بحد ذاته يعتبر مؤشراً مهماً على ازدياد رقعة نفوذ روسيا على الساحة

 

الإقليمية. فقد نجحت في إعادة ترسيم علاقاتها من جديد مع مصر وتمتين علاقاتها مع كل من ايران وسوريا. وحجمت دور دول الخليج العربي وتركيا في المنطقة واستغلت فشل هذه الدول في القيام بأدوراها السياسية بصورة مقنعة بغرض الولوج إلى المنطقة مجدداً بزخم كبير سيكون له انعكاساته على إعادة صياغة التحالفات الإقليمية في المنطقة الشرق أوسطية في المستقبل القريب.

 

روسيا بتحالفها مع الصين باتت تتمتع بوزن سياسي على الساحة الدولية يؤهلها للمضي قدماً في إعادة ترسيم المنظومة الدولية من جديد وتهيئة الظروف لبزوغ فجر نظام دولي جديد متعدد الأطراف والأقطاب يهدف إلى تحقيق توازن في القوى، من خلال تمتين فعالية التحالفات الدولية ودورها، ولا سيما التحالف الروسي الصيني من طرف، والتحالف الأمريكي الأوروبي من طرف آخر. وما سيشده النظام الدولي من تحجيم للدور الإسرائيلي على المستوى الإقليمي والدولي خلال الفترة المقبلة وذلك من خلال ترسيم نظام دولي يفضي في نهاية المطاف إلى بلورة نظام دولي متعدد القطبية يحجم النفوذ الإسرائيلي في العالم والمنطقة وتطغى عليه صفة التوازن.

 

النظام الدولي الذي باتت ملامحة تتشكل لا يعني بالضرورة أن يبقى كما يبدو عليه الآن لفترة طويلة، فقد يكون من الممكن خلال فترة لاحقة أن يعيد هذا النظام ترسيم ملامحه من خلال بناء تحالفات ثنايئة أو ثلاثية أكثر فعالية وأعمق تأثيراً في بنية النظام الدولي، أو من خلال تقوية نفوذ هذه التحالفات في منظمات ومؤسسات المجتمع الدولي المؤثرة والفاعلة. ومن وهنا يبزغ تساؤل مهم في مدى انعكاس هذه التغيرات الدولية شكلاً ومضموناً على مستقبل القضية الفلسطينية، وما مدى وقدرة فلسطين كدولة عتيدة على تحقيق الاستفادة الممكنة من هذا التوزان الجديد في المنظومة الدولية وانعكاساتها على مسار العملية التفاوضية التي كانت وما زالت برعاية أمريكية منحازة لصالح إسرائيل على الدوام.