اختتم وزير الخارجية الأمريكية زيارته الأخيرة لفلسطين المحتلة، بإطلاق تصريحات تفاؤلية، عن لقاءاته التي عقدها مع رئيس وزراء الكيان الصهيوني، ومع الرئيس الفلسطيني، تفيد بأنه أحرز تقدماً، في دفع عملية السلام والمفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية، وأشار إلى أن لقاءات لاحقة سوف تعقد في واشنطن، لمتابعة ذلك التقدم، وقد عرض الوزير كيري في لقاءاته أفكاراً جديدة، تتعلق بأمن إسرائيل، في حال تم التوصل إلى تسوية، بينها وبين الفلسطينيين، تلك الأفكار التي يتولى مستشاره العسكري الجنرال (جون ألن) وضع صياغاتها النهائية، بما تكفل طمأنة الكيان الصهيوني إزاء أية أخطار أمنية مستقبلية، قد تنجم عن إقرار أي تسوية مقبلة مع الفلسطينيين...!
يبدو أن السيد كيري في سياق استرضائه الكيان الصهيوني، وامتصاص غضبه إزاء الصفقة الأمريكية الإيرانية ( إتفاق إيران مع (5+1) )، والتي ستمثل صفقة القرن بالنسبة لكل من إيران، والولايات المتحدة، لم يجد أمامه سوى القضية الفلسطينية ليقدم له منها رشوة سياسية أمنية، تقوم على أساس استمرار بقاء قوات الاحتلال الإسرائيلي في مناطق الدولة الفلسطينية الموعودة، تحت تبريرات أمنية تحول دون إتمام ما يتوجب بموجب عملية السلام من إنهاء للاحتلال الإسرائيلي، وما يستتبعه من إنسحاب قواته وتفكيك مستوطناته التي تبتلع الأراضي الفلسطينية وتزداد توسعاً يوماً بعد يوم، والتي أصبح معها حلم تحقيق حل الدولتين ضرباً من ضروب الخيال السياسي الأمريكي الإسرائيلي.
إن المساحة المتبقية من أرض فلسطين والتي تمثل أقل من خُمس فلسطين التاريخية، ويجري التفاوض بشأنها بين الطرفين ويستبيحها الاستيطان، مطلوب أيضاً أن تستباح باسم توفير الأمن للكيان الصهيوني، إزاء أية مخاطر قد تكون مفترضة أو متوقعة من دول الجوار في ظل جملة من المتغيرات السياسية التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط والسياسات الأمريكية ومستجداتها فيها.
من هنا فإن جملة من التساؤلات تثور في الذهن السياسي الفلسطيني والعربي إزاء هذه الأفكار غير الإبداعية، التي تتقدم بها الدبلوماسية الأمريكية، فهل يتم استرضاء نتنياهو وكيانه للموافقة على، أو وقف المعارضة لإتفاق إيران النووي على حساب قتل الأمل لدى الفلسطينيين، بإقامة دولة مستقلة على الأراضي المحتلة عام 1967م، عبر ترتيبات أمنية تحول دون إتمام إنسحاب قوات الاحتلال من الأراضي المحتلة، ودون تحقيق الاستقلال للفلسطينيين في دولة ذات سيادة وقابلة للحياة ؟!!
كيف يمكن الموازنة بين متطلبات إسرائيل الأمنية وبقاء قواتها في نقاط عديدة من الأراضي الفلسطينية وخصوصاً في الأغوار، وتحقيق الاحتياجات الفلسطينية للسيادة والاستقلال وبناء الدولة ؟!!
ألم يحن الوقت كي ينعم الشعب الفلسطيني بالحياة الحرة والكريمة ؟!!
هل ستبقى الهواجس الأمنية الصهيونية المركبة والمبنية على الموروث الثقافي اليهودي الصهيوني في أوروبا والغرب تحكم مستقبل العلاقة الفلسطينية الإسرائيلية، وما شأن الفلسطينيين بها وما علاقتهم، حتى يقدموا وطنهم وحياتهم ومستقبلهم ضحية جيلاً بعد جيل، نظير حل عقدة الأمن الصهيونية المتأصلة في الثقافة الصهيونية ؟!
أي عبث سياسي ودبلوماسي هذا الذي تمارسه اليوم الدبلوماسية الأمريكية إزاء دفع عملية المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية، ويرتكز على عنصري التغابي والإنحياز، للتذاكي الصهيوني والعقد الأمنية النفسية المركبة التي يعاني منها أفراداً ومجتمعاً ؟!!
إن هذا الإنحياز والتغابي والتذاكي المزدوج، يأتي تتويجاً لمرحلة زادت عن عشرين عاماً من الإنفراد الأمريكي بتوجيه مسارات التفاوض الفلسطيني الإسرائيلي، ولتكون النتيجة تبخر فرصة السلام القائمة على أساس ((مبدأ الأرض مقابل السلام))، وليحل مكانه مبدأ ((الأمن مقابل السلام))، والذي يعني إسقاط حل الدولتين وإلى غير رجعة.
إن ما قدمه العرب ومعهم الفلسطينيون من تنازلات كبيرة ومؤلمة مقابل تنفيذ ((مبدأ الأرض مقابل السلام))، كان كفيلاً بإقرار تسوية مقبولة لجميع الأطراف، تؤدي إلى إنهاء الاحتلال الإسرائيلي للأراضي المحتلة عام 1967م وتحقيق حلم الفلسطينيين بإقامة دولتهم المستقلة القابلة للحياة بجانب دولة الكيان الصهيوني، لو توفرت حسن النوايا لدى الطرف الآخر ولدى الولايات المتحدة راعية عملية السلام المزعومة.
على السيد جون كيري أن يدرك أن مثل هذه الأفكار القائمة على الأمن، والأمن للإسرائيليين فقط، غير ممكنة التنفيذ ولا تساعد على إيجاد الحل المبدع الذي يبنى على أساسه السلام والحل الدائم، وعليه أن يدرك أيضاً أن الذي يحتاج إلى الأمن والحماية هم الفلسطينيون الذي مضى على نكبتهم وعذاباتهم خمسة وستين عاماً وليس الإسرائيليون الذين يملكون الدولة، والمؤسسات والجيش المتطور والمدرب، والمسلح بأحدث الأسلحة ويمارس شتى أصناف الإرهاب والتوسع على حساب الشعب الفلسطيني.
يبدو أن فرص السلام الفلسطيني الإسرائيلي قد تبخرت بسبب هذا التزاوج بين التغابي والإنحياز الأمريكي والتذاكي الصهيوني وعقده الأمنية النفسية المركبة، ولم يبقى من المدة المقترحة أمريكياً للتوصل إلى إتفاق سلام سوى شهور قليلة قاربت على النفاذ، فإذا لم تتدارك الولايات المتحدة خطورة مثل هذه الأفكار القائمة على الأمن والأمن فقط للإسرائيليين، دون النظر لمصالح ومطالب الشعب الفلسطيني في حقه في العيش بكرامة في دولة مستقلة على حدود الرابع من حزيران 1967م وعاصمتها القدس، وحل مشكلة اللاجئين وفق الشرعية الدولية، فإن الوضع بات على حافة الهاوية وينذر باشتعال المنطقة من جديد.