عملية السلام كانت من اساسها خدعة كبرى وقع الفلسطينيون في متاهاتها

بقلم: المهندس فضل كعوش

ذهب المفاوضون الفلسطينيون الى مدريد للمشاركة في اعمال مؤتمر السلام الذى انعقد فى 30 اكتوبر 1991 تحت المظلة العربية ، وعلى اساس  الضمانات التى قدمها ألراعي ألأمريكي والتى بنيت على وعود التنفيذ الدقيق والامثل نصاً وروحاً للقرارات الدولية ، ومبدأ الارض مقابل السلام والاعتراف بمدينة القدس الشرقية ارضاً محتلة ينطبق عليها القرارين الدوليين 242 و337 ، مع الاقرار بالحقوق المشروعة للشعب الفلسطينى ، وخاصة حق تقرير المصير.

كان الوفد الفلسطيني المشارك في مؤتمر السلام في مدريد برئاسة كبير العقلاء المفاوضين الفلسطينيين الدكتور المرحوم حيدر عبد الشافي ، وكان رئيس وأعضاء هذا الوفد جميعهم  يعرفون جيدا ان الوضع التفاوضي الفلسطيني ضعيف ودقيق ، بحكم ان دعوة الفلسطينيين للمشاركة  بعملية السلام ، خضعت لضغوط وشروط دولية مجحفة وبأدنى الحقوق التي كان على الراعيين اقرارها مسبقا ، واهمها استقلالية الوفد الفلسطيني في عملية السلام ، وان لا تكون المشاركة الفلسطينية ضمن الوفد الأردني كما فرض هذا ألأمر على الفلسطينيين ، لذلك لم  يتم الاعتراف بالطرف الفلسطيني كطرف متكافئ مع الطرف "الإسرائيلي" . كان من ألأهمية البالغة ان لا يقبل الفلسطينيون المشاركة في المفاوضات قبل ان يتم تحديد المرجعيات ألأساسية للتفاوض ، وأهمها أن تكون حدود عام 1967 هي بمثابة مرجعية ملزمة مع كافة قرارات الشرعية الدولية ، كوثيقة اساسية يتبناها المؤتمر ، وليس فقط القرارين 242 و 338 . ولهذا وقع المفاوض الفلسطيني في متاهة العملية التفاوضية منذ اللحظة ألأولى لأنطلاقها ، ودخل الفلسطينيون في دهاليز ومتاهات عملية السلام ، لا يملكون القدرة  التفاوضية على اسس ومرجعيات محددة مسبقا ، ولذلك ابتدأ القلق والتخوف الكبير يساور الوفد المفاوض الفلسطيني من جدوى  المشاركة في هذه العملية ومخاطرانعكاساتها على القضية الفلسطينية . 

بعد انطلاق عملية السلام وبدء اللقاءات وفي ضوء نتائج مراحلها ألأولى التي جرت خلال الفترة 1991-1992 ، ابتدأ  كبير العقلاء المفاوضين الفلسطينيين المرحوم الدكتور حيدر عبد الشافي ، يكتشف الخفايا الحقيقية لهذه العملية ، بوجود نوايا سيئة تجاه القضايا والمطالب ألأساسية الفلسطينية ، ولذلك بادرعلى الفور بتحذير القيادة السياسية الفلسطينية  وتنبيهها الى خطورة األأمر ، مشددا على ضرورة رفض فكرة المراحل ألأنتقالية للعملية التفاوضية حول القضايا الجوهرية " أي رفض مبدأ مرحلة المفاوضات حول تلك القضايا ، ومن ضمنها القدس واللاجئين والآراضي والحدود والمستوطنات ، وشدد في هذا الصدد على ضرورة انهاء عملية التفاوض حول هذه القضايا كرزمة واحدة غير قابلة للتجزأء والمساومة  ودون أي تأجيل لأي منها ، واشار بأنه لا يرى وجود ضرر هو وفده ان يتم ألأتفاق حول خطط محددة لمراحل التنفيذ بشأن بعض جوانب قضايا الوضع الدائم ، وفق ما تفرضه ظروف ومقتضيات كل قضية على حدة ، دون المساس بجوهر ألأتفاق النهائي حولها  .

هذه هي قاعدة التفاوض ألتي تبناها كبير عقلاء المفاوضين الفلسطينيين وفريقه المفاوض ، منذ بداية العملية التفاوضية ، وشدد رحمه الله  مكررا تحذيراته بعدم الخروج عن هذه القاعدة لكي لا يقع الفلسطينيون بشرك الوعود الكاذبة وسياسة المماطلة ، وان لا يجبروا اي الفلسطينيين عنوة وقهرا للرضوخ لسياسة  فرض ألأملاءات والحلول ألأسرائيلية المبنية على سياسة ألأمر الواقع . لذلك وكما اسلفنا كان على الفلسطينيين تثبيت ألأسس والمرجعيات التفاوضية خلال مؤتمر السلام في مدريد عام 1991 وقبل انطلاق المفاوضات وقبل الدخول بمتاهاتها .

 

منذ انطلاقها في مدريد عام 1991 كانت عملية السلام حول الشرق ألأوسط ، بمثابة طبخة سياسية ، اعدت على نار هادئة ، استغرقت عملية طبخها سنوات طويلة ، شارك فيها خبراء في السياسة الدولية والشرق اوسطية من عدة جنسيات وبالطبع من ضمنهم وعلى رأسهم يهود صهاينة واسرائيليون . وكما يبدو فقد وزعت ألأدوار ووضعت خارطة طريق محبكة ، لتنفيذها على مراحل محددة مرتبطة  بسيناريوهات تحاكي كافة اشكال الأفتراضات التي قد تواجه وتعيق عمليات التنفيذ وصولا الى فرض السلام المنشود الذي يريده الصهاينة وألأسرائيليون وحلفائهم في العالم ، وليس سلام السراب الذي جاء الفلسطينيون والعرب يبحثون عنه في مدريد .

بعد مرور اكثر من 23 عاما على انطلاق عملية السلام ، وتحت مظلة هذه العملية ، وبأستخدام  سياسات التسويف والمماطلة وخلق المعيقات ، استمرألأسرائيلون في تنفيذ خططهم ومشاريعهم ألأستيطانية والهيمنة على المزيد من ألأراضي الفلسطينية الى ان بلغت نسبتها حاليا اكثر من 60% من مساحة الضفة الغربية  وعلى اكثر من 80 % من مساحة القدس الشرقية ،  ووالتوسع في مسار جدار الفصل العنصري ، وفصل المزيد من المناطق الفلسطينية عن بعضها البعض وتحويلها الى كانتونات معزولة ومحاصرة ،  وإحكام السيطرة العسكرية شبه الكاملة على معظم مناطق ألأغوار وعزل هذه المنطقة عن باقي مناطق الضفة الغربية ، ويبدوا ان ما كان يريده ألأسرائيليون من عملية السلام قد تحقق الجزء ألأكبر منه ، وعلى كافة  المحاور العسكرية وألأمنية ومن ضمنها المناطق المصنفة "ج"  والمعابر والحدود ، وتوسيع وتشريع ألأستيطان وفق سيناريو تبادل ألأراضي المطروح ، بما يضمن احكام السيطرة الكاملة والدائمة على مجمل مناحي حياة الفلسطينيين ونشاطاتهم وحركة تنقلهم وإخضاع كافة قدرات وسلطات وصلاحيات كيان الحكم الذاتي لفلسطيني المحدود والموعود والمسمى بدولة فلسطين القادمة ، للقرارألأسرائيلي في كافة الجوانب .

 ووفق الحقائق القائمة على ارض الواقع فقد نجح ألأسرائيليون في تحقيق كل ما كانوا يريدون تحقيقه من عملية السلام ، بفضل صرامة وحنكة مفاوضيهم وتمسكهم بمواقفهم المتشددة ، وحصولهم على الدعم من قبل حلفائهم في المطبخ السياسي الدولي المنخرط في عملية السلام ، وفي المقابل ممارسة المزيد من الضغط على المفاوض الفلسطيني ، من قبل ألأطراف الدولية وألأقليمية معا ، والأفراط الفلسطيني بسياسة النوايا الحسنة ووقوعهم نتيجة لتلك السياسة الخاطئة  ضحية الوعود والضمانات الدولية المخادعة والكاذبة التي ما زالوا يراهنون عليها .

            

 لم تكن اسرائيل معنية بألأساس بعملية السلام على المسار الفلسطيني ، ولم يكن لدى قادتها من اليمين المتطرف خاصة، اية رغبة بالجلوس مع الفلسطينيين للبحث حول اتفاق نهائي يشمل قضايا جوهرية تمس المصالح الأسرائيلية وفي مقدمتها قضايا القدس وألأستيطان واللاجئين وغير ذلك ، ولهذا مارس ألأسرائيليون كافة وسائل الضغط وعلى كافة المستويات السياسية لأنهاء صلاحية العمل بأتفاقية أوسلو دون الإعلان الرسمي عن ذلك ، ليس لأن هذه ألأتفاقية كانت تشكل خطرا عليهم ، بل لأنهم لم يعودوا بحاجة اليها ، فقد تخطتها عمليات الهيمنة والتوسع الأستيطاني ألأسرائيلي بأشكاله وأبعاده المدنية والعسكرية ، الى ابعد بكثير مما تضمنته بنودها . وعلى الصعيد الفلسطيني لم تجلب هذه ألأتفاقية اية مكاسب ملموسة على ارض الواقع ، بل على عكس ذلك تماما ، حيث استغل ألأسرائيليون هذه ألأتفاقية أسوأ استغلال تجاه الحقوق الفلسطينية في كافة الجوانب ألأمنية وألأقتصادية والمدنية .

فمنذ توليه رئاسة الحكومة الأسرائيلية ، يعمل نتنياهو جاهدا مع احزاب اليمين الداعمة له ، لفرض سياسة ألأمر الواقع في كافة الجوانب ، بغية إفشال المفاوضات والغاء الحاجة للتوصل الى اتفاق نهائي للوضع مع الفلسطينيين ، متجاوزا كليا ما تضمنته اتفاقية اوسلو لعام 1993 من مباديء ومرجعيات لأنهاء الصراع والتوصل الى اتفاق سلام عادل وشامل ودائم  ..

توجهات نتنياهو ومواقفه السياسية المتشددة التي تبناها لأرضاء حلفاءه من اليمين المتطرف ، لم تعد بمثابة اجندة تفاوضية مطروحة على طاولة المفاوضات ، بل اصبحت بمثابة برنامج عمل التزم به نتنياهو ويعمل جاهدا على تنفيذ بنوده كاملة غير منقوصة لأرضاء معسكر اليمين الي يتزعمه وينتمي اليه نتنياهو نفسه ، ويتركز هذا البرمامج  بالدرجة ألأولى حول : (أ) التعهد بالعمل على الإبقاء على غالبية المستوطنات وألأستمرار في توسيعها حيث لم يعد الحديث يدور فقط عن الكتل الاستيطانية فقط ، بل على كافة المستوطنات وعلى قاعدة بأن امن المستوطنات هو من امن اسرائيل وبأن اي حديث عن إزالة المستوطنات يعني الحديث عن نهاية اسرائيل ، (ب) رفض خطة المرت المعدلة وهي الخطة التي تضمنت مسألة تبادل ألأراضي بنسبة 6.3% ، لأن هذه الخطة تتعارض مع مواقف احزاب اليمين المتطرف وإستبدال هذه الخطة بخطة نتنياهو غير المعلنة رسميا والجاري العمل بموجبها ، (ج) جدار الفصل العنصري غير مطروح للنقاش وهو بمثابة حدود امنية وسياسية ثابتة  ودائمة ، (ح) رفض ألأعتراف بحدود 1967 كأساس للمفاوضات ولا عودة الى تلك الحدود ، (خ) لا تفاوض بشأن وضع مدينة القدس  فهذه المدينة بشقيها الشرقي والغربي تشكل القدس الكبرى وهي الموحدة العاصمة ألأبدية لأسرائيل ولن يجري الحديث عن تقسيمها  بالمطلق ، (د) لا لحق العودة للاجئين واسرائيل لن تتحمل اية مسؤولية تجاه هذه المسألة ويعتبر ألأسرائيليون ان حل مسألة اللاجئين هي من مسؤولية المجتمع الدولي ، (ذ) ستبقى المنطقة المصنفة "ج"  تحت السيطرة العسكرية ألأسرائيلية لعقود طويلة بما في ذلك منطقة غور وادي ألأردن والمعابر الحدودية ، (ر)  عملية انسحاب الجيش ألأسرائيلي من بعض مناطق الضفة الغربية في حالة التوصل الى اتفاق نهائي ستكون على مراحل زمنية طويلة ولن يكون هناك انسحاب للجيش ألأسرائيلي على دفعة واحدة ، (ز)  لن يمنح الفلسطينيون اي نوع من السيادة الكاملة على مناطق "يهودا والسامرة" كما يصر نتنياهو على تسميتها بذلك وسيتم منح السلطة الوطنية صلاحيات محددة "وليكن اسمها دولة فلسطين" لتولي إدارة الشؤون المدنية اليومية للسكان الفلسطينيين فقط لا غير .

  كشفت لقاءات التفاوض المتعددة السابقة والجارية عن النوايا الحقيقية للأسرائيليين تجاه الحقوق الفلسطينية المشروعة ، وأن الدافع الرئيسي لمشاركة الأسرائيليين في عملية السلام هو التوصل الى اتفاقات تنهي الصراع التاريخي بينهم وبين جيرانهم العرب ولكي يحصلوا في نهاية الأمر على اعتراف عربي كامل وشامل بكيانهم  ويقيمون علاقات ديبلوماسية وإقتصادية مع كافة الدول العربية ، وبأقل الثمن  وعلى حساب الحقوق الفلسطينية ، وهذا ما كشفه مبكرا كبير عقلاء المفاوضين الفلسطينيين وهو ما حذر منه منذ انطلاق عملية السلام كما اسلفنا اعلاه . 

كما سبق وأسلفنا اعلاه ، فأن اللوبي الصهيوني هو المحرك الرئيسي للمطبخ السياسي لعملية السلام من اساسها ، فقد تم التخططيط المسبق لتقسيم عملية السلام الى مسارين كما هومعروف ، مسار المحادثات متعددة ألأطراف وهو المعروف بالمسار التطبيعي ، وقد شارك في اجتماعات هذا المسار وفود من ألأطراف الثلاثة : الأردنيون والفلسطينيون وألأسرائيليون ، بألأضافة الى انضمام وفود من بعض الدول العربية منها مصر والسعودية وقطر وعمان والجزائر وتونس ، ودول اجنبية اخرى على رأسها الراعيين لهذا المسار، الأمريكان والروس ، ودول ألأتحاد ألأوروبي واستراليا وكندا وغيرها . وقد شكلت خمسة مجموعات عمل تتبع هذا المسار وهي مجموعة العمل حول المياه ، ألأقتصاد ، اللاجئين ، البيئة وألأمن ، حيث حددت اهداف المسار متعدد الطراف في بناء  وتطوير أنشطة وبرامج التعاون ألأقليمي في العديد من المجالات ، ضمن المجموعات المشار اليها ، وقد تولت رئاسة  كل مجموعة دولة من الدول ألأجنبية .

كما اشرنا فأن الغرض من خلق هذا المسار التفاوضي متعدد ألأطراف ، كان يحمل في ظاهره دعوة لبناء وتطوير اوجه وأشكال التعاون ألأقليمي وذلك من خلال تنفيذ البرامج والمشاريع وألأنشطة  ذات البعد ألأقليمي في المجالات اعلاه ، بما يوفر فرص ألأزدهار وتحسين مستوى الحياة لكافة شعوب المنطقة ، ولأظهار تلك ألأهداف وكأنها  وضعت لتساهم في دعم وإنجاح مساعي وجهود السلام وترجمتها على ارض الواقع .  ولكن ألأهداف الحقيقية للمسار التطبيعي  لم تكن كذلك بالمطلق  ، كما ثبت خلال اللقاءات وألأجتماعات المتعددة التي جرت في هذا ألأطار على مدى عدة سنوات ، فقد تبن ان الهدف الرئيسي للمسار متعدد ألأطراف هو محاولة فرض واحلال قضايا هذا المسار المشكلة من مجموعات العمل الخمسة اعلاه ، لتكون بديلة الى حد كبير للقضايا الجوهرية ، من خلال فرض الحلول التطبيعية حول كافة القضايا الحياتية وعلى رأسها القضايا الأقتصادية والصحية والبيئة والمياه والمواصلات وألأتصالات والتشريعات والقوانين والتربية والتعليم وغيرها ، وربط هذه القضايا وغيرها بالتبعية لأسرائيل وللقرار ألأسرائيلي  والفيتو ألأسرائيلي والى ألأبد .

 وعلى سبيل المثال لا الحصر ، فقد حاول ألأسرائيليون من خلال مجموعة العمل حول المياه وهي احدى المجموعات الخمسة المنبثقة عن المسار متعدد ألأطراف ، فرض حلول التعاون حول تطوير بدائل المياه غير التقليدية ومن ضمنها مشاريع تحلية مياه البحر واستيراد المياه من دول الجوار وإستمطار الغيوم  وما شابه ذلك ، لتكون حلولا بديلة للمطالب الفلسطينية في مصادر المياه العذبة المشتركة .  وفي مجال البيئة يسعى ألأسرائيليون الى فرض قوانين ومعايير بيئية وفنية ، يصعب على الجانب الفلسطيني تطبيقها مباشرة ، نظرا لما قد تحتاجه من معرفة وتقنيات وتكاليف عالية جدا، وامور اخرى ، والهدف من وراء ذلك هو لأبقاء متطلبات حماية محيط البيئة في ألأراضي الفلسطينية ، خاضعة للقرار والفيتو ألأسرائيلي بشكل دائم ، هذا بألأضافة الى محاولات الزام الجانب الفلسطيني بالموافقة على العديد من مشاريع وبرامج للتعاون الأقليمي في مجال البيئة ، ومن ضمن تلك المشاريع ، مشروع قناة البحرين الذي يعتبر تبرئة للجرائم البيئية المرتكبة من قبل ألأسرائيليين في حوضي نهر ألأردن والميت ، وفي المجال ألأقتصادي يتمسك ألأسرائيليون بأتفاقية باريس ألأقتصادية ويرفضون اجراء اي تعديل عليها ، بل على عكس ذلك يحاولون بأستمرار حصر بنودها وتقييد اليات تنفيذها ، لضمان بقاء ألأقتصاد الفلسطيني تابعا لهم وخاضعا لتوجهاتهم وسياساتهم بما يخدم اهدافهم ومخططاتهم ومصالحهم ، ونفس ألأمر بما يخص القضايا ألأخرى المشار اليها اعلاه .

خلاصة ما تقدم ، فأن الهدف الرئيس للمسار متعدد ألأطراف كان ولا زال محاولة اسرائيلية مدعومة دوليا لتجاوز قضايا الوضع لدائم قدر ألأمكان ، من خلال فرض سياسة التطبيع والتبعية الفلسطينية الدائمة لأسرائيل في كافة مناحي حياة الفلسطينيين ، بما في ذلك الجوانب وألأمور السياسية وألأمنية ، ضمن كيان شبه اداري ومدني محدود ومقيد لا يتمتع بأي نوع من ألأستقلال والسيادة على اراضيه وحدوده  وثرواته الطبيعية .

اما على المسار الثناائي وهو ألأكثر خطورة ، وهو المسار الذي يعمل ألأسرائيليون على افشاله طيلة السنوات العشرين الماضية والحيلولة دون حصول اي تقدم بشأن القضايا الثنائية الخاصة بالوضع الدائم وهي كما اشرنا اليها سابقا القضايا الجوهرية وألأساسية لكامل العملية التفاوضية وتشمل : القدس والاجئين والأراضي والحدود والمستوطنات والمياه وألأمن .

ولكي يضمن الأسرائيليون النجاح في افشال هذا المسار التفاوضي قبل ان ينطلق ، اشترطوا تقسيمه الى مرحلتين ، المرحلة ألأنتقالية 1995-1999 وبعدها تأتي المرحلة ألنهائية . وهذا هو الخطأ الثاني، الذي وقع فيه الفلسطينيون عندما وافقوا على هذا التقسيم ، خاصة وان المباديء التي تضمنتها اتفاقية اوسلو للعام 1993 لم تكن تشكل ضمانا قانونيا كافيا وملزما للطرفين بشأن ألأسس التفاوضية ، بما في ذلك المرجعيات التفاوضية والجداول الزمنية الملزمة والمحددة بدقة لمراحل ألأنسحاب ألأسرائيلي من ألأراضي الفلسطينية ، وكذلك ألأمر بما يخص وقف ألأستيطان وكافة الأمور والقضايا المدنية والعسكرية ألأخرى .  

 استغل ألأسرائيليون ما اسسوا له منذ بدء عملية السلام من عدم الوضوح لمجمل الأتفاقيات والتفاهمات التي تلت اتفاقية اوسلو وألأتفاقية المرحلية ، وجاؤوا الى طاولة المفاوضات للوضع الدائم ، ليفرضوا اجندتهم التفاوضية ، وهي أجندة تقوم على فرض ألأمر الواقع على الفلسطينيين في كافة جوانبه ، وخاصة ألأستيطان في كافة انحاء الضفة الغربية بما في ذلك القدس الشرقية ومحيطها ، وإختراع ذريعة ما يسمى بتبادل ألأراضي بهدف تشريع مناطق ألأستيطان القائمة والمخطط منها للتوسع مستقبلا ، وفصل المناطق الفلسطينية وحصارها وبقاء ألأحتلال ألأسرائيلي في المناطق المصنفة "ج"  تحت ما يسمى  بالذرائع والدواعي ألأمنية .

غالبية ألأسرائيليين يعارضون حل الدولتين ولا يريدون اقامة سلام مع الفلسطينيين ، يكون ثمنه إقامة دولة فلسطينية مستقلة وعاصمتها القدس الشرقية وفق حدود عام 1967  ، بل ما يريدونه وما يقبلون به منح الفلسطينيين كيان للحكم الذاتي تكون مناطقه مجزأة الى جزر على شكل كانتونات محاصرة ووقيدة و لهم خاضعة ، وليس دولة مستقلة ذات سيادة قانونية كاملة على كافة ألأراضي التي إحتلت عام 1967 . ألأمر الذي سيحول دون إستعادة الفلسطينيين لحقوقهم المغتصبة وممارسة  حياتهم وحرياتهم  بأمن وكرامة ، ضمن دولة لها سيادتها الفعلية على اراضيها وحدودها .

خلال اللقاءات التفاوضية التي جرت بين المفاوضين الفلسطينيين ونذرائهم ألأسرائيليين في الفترة   2008-2009 ، والتي اشتملت على كافة القضايا التفاوضية وعلى كافة المستويات السياسية والفنية ، حاول ألأسرائيليون خلال تلك اللقاءات  وكعادتهم المماطلة  واستبعاد او تأجيل او تعقيد  القضايا الجوهرية قدر ألأمكان ، بما في ذلك قضايا القدس ، اللاجئين ، ألأراضي والحدود ، المياه وألأستيطان   والتركيز على مناقشة الملفات الفنية التي ابتدعوها  وفرضوها على عملية المفاوضات النهائية ، وجميعها  ملفات تطبيعية غير جوهرية ، ومارسوا الضغط على الجانب الفلسطيني من أجل تحقيق تقدم سريع بشأن تلك الملفات ، على حساب قضايا الوضع الدائم وهي القضايا الأساسية والجوهرية ، لمجمل القضية الفلسطينية .

ما تسرب من معلومات حول طبيعة ونتائج ألأجتماعات التي جرت خلال الفترة أعلاه ، تكشف بوضوح عن حقيقة النوايا ألأسرائيلية  وأبعادها السياسية الخفية  تجاه عملية السلام ، والتي تتركز بالدرجة ألأولى  وكما أشرنا اعلاه على فرض التبعية على الفلسطينيين في كافة المناحي والمقومات الحياتية ، مسبقا وقبل الدخول في مناقشة قضايا الوضع الدائم  .

ووفق تلك المعلومات فأن ألأسرائيليين قد نجحوا في  تحقيق تقدم هام بشأن بعض الملفات الفنية ، من ضمنها ملف ثقافة السلام ، ملف شعب لشعب ، ملف الزراعة ، ملف البيئة ، ملف الصحة ، ملف القضايا القانونية ، ملف البنية التحتية ، الملف ألأقتصادي وغيرها  ، حيث تم اعداد  بعض المسودات ألأولية للأتفاقيات النهائية حول تلك الملفات ، بينما لم يحصل أي تقدم  بشأن الملفات الجوهرية لقضايا الوضع الدائم ، التي لا تزال تراوح مكانها منذ مدريد عام 1991،  ولم يتم التوصل حتى الى إتفاق حول أجندة عمل واحدة بشأن هذه القضايا ، نعتقد ان موافقة الجانب الفلسطيني على الدخول في مناقشة القضايا الفنية ونعني ملفات التطبيع أعلاه ، في هذه المرحلة وعلى هذا النحو من ألأملاءات ألأسرائيلية ، كان خطأ كبيرا ، فقضايا البنية التحتية والبيئة والزراعة والصحة والقوانين وما شابه ذلك ، كان يجب ان تؤجل بكاملها وأن لا يتم البحث بشأنها  والتحدث حولها ومناقشتها ، إلا بعد التوصل الى اتفاق نهائي حول كافة القضايا الجوهرية للوضع الدائم  وممارسة فعلية للسيادة الفلسطينية على ألأرض وعلى الحدود وعلى القدس وعلى المياه وبعد حل مشكلة اللاجئين ، وليس قبل ذلك ، لأن هذه القضايا أي القضايا الفنية التعاونية  ليست قضايا تفاوضية  ولا تحتاج إلا تفاوض بقدر ما تحتاج الى وضع آليات فنية للتعاون المشترك بشأنها فيما بعد ، وأن تجري  مناقشتها لاحقا من خلال المؤسسات الرسمية المختصة ، لدى كل طرف ووفق رغبته وقدراته وخططه وبرامجه التنموية ، وليس من خلال لجان تفاوضية وضمن أجندة إسرائيلية محددة .

فمشاريع البنية التحتية على سبيل المثال ، تحدد وفق خطط وطنية فلسطينية ، ولا دخل للأسرائيليين بها بالمطلق ، إلا في بعض الحالات المشتركة ، والتي قد تفرضها متطلبات وضروريات التعاون المستقبلي ، ويتم مناقشتها في ظل وجود سيادة وطنية للفلسطينيين على ألأرض ، كذلك ألأمر بالنسبة للقضايا الفنية ألأخرى ، الزراعة والصحة والبيئة وألأقتصاد وغيرها وهي شؤون فلسطينية تحكمها سياسات سيادية وطنية ، ولا تخضع لأية إملاءات إسرائيلية من أي نوع كان .

وعلى سبيل المثال لا الحصر ، لماذا يقبل الفلسطينيون ان يتدخل الأسرائيليون مسبقا بمشاريع البنية التحتية لدولة فلسطين قبل قيام هذه الدولة  ، وبخطوط الهاتف وبشبكات الكهرباء والطرق والسكك الحديدية والصحة والبيئة والزراعة ، يمكن الحديث عن بعض المشاريع ألأقليمية التعاونية مثل المعبر ألآمن بين الضفة وغزة ، ويمكن الحديث عن قناة الغور  الغربية وما شابه ذلك ، في إطار  المفاوضات ، بأعتبار هذين المشروعين ضمن مشاريع التعاون ألأقليمي ، ولكن ليس حول مشاريع بناء الدولة الفلسطينية .

نعتتقد بأنه كان ولا زال على الجانب الفلسطيني ان يرفض التفاوض على اية قضايا فنية وان يطلب تأجيل ألحديث حول هذه القضايا الى ما بعد ألأنتهاء من التوقيع على قضايا الوضع الدائم ، وان تناقش كافة ألقضايا وألأمور الفنية من قبل المؤسسات الرسمية المختصة وأن لا ينوب أحد عنها ، فهذا شأن تلك المؤسسات ووفق خططها وبرامجها وأولوياتها ، وأن يركز الفلسطينييون خلال المرحلة التفاوضية على قضايا الوضع الدائم بشكل رئيسي .

المفاوضات الجارية حاليا والتي مضى عليها حتى الأن اكثر من ثلاثة اشهر ، تبين ان الفجوة بين الجانبين الفلسطيني وألأسرائيلي قد ازدادت اتساعا وتعقيدا عما كانت عليه قبل مجيء حكومة نتنياهو ، حيث وضع ألأسرائيليون شروطا تعجيزية جدية وأعلنوا عن مواقف اكثر تشددا بشأن غالبية قضايا الوضع الدائم ، وهي ضمن خطة نتنياهو غير المعلنة والتي اشرنا اليها اعلاه  وأهمها ما تتضمنه هذه الخطة : ألأمن مقابل السلام وليس ألأرض مقابل السلام ، لا عودة إلى حدود ما قبل الرابع من حزيران لعام1967، هذه الحدود غير موجودة ، الاستيطان باقٍ على ما هو عليه في القدس الشرقية وفي باقي مناطق الضفة الغربية ، لا لحق العودة ولا لعودة أي فلسطيني الى مناطق ال 1948 ، إسرائيل دولة للشعب اليهودي ، القدس الموحدة غير قابلة للتقسيم وعاصمة إسرائيل الأبدية ولن يحصل الفلسطينيون على أكثر مما لديهم ألان من مساحة القدس الشرقية ( أي على 11% فقط ) ، فرض مبدأ تبادل الأراضي( وفق توجهات نتنياهو وليس وفق خطة المرت)  ، لن تكون سيادة ولا سيطرة للفلسطينيين على الحدود والمعابر الدولية ، منطقة غور وادي الأردن ستبقى تحت السيطرة والرقابة الأمنية الإسرائيلية الدائمة ،  جدار الفصل العنصري (أو كما يسميه نتنياهو بجدار الحماية الأمنية) ، سيبقى قائما  وهو بمثابة حدود ثابتة ودائمة بدوام الاحتياجات الأمنية الإسرائيلية لذلك ، والممر الأمن بين الضفة والقطاع ( إن نفذ ) سيكون تحت الرقابة الأمنية الإسرائيلية الدائمة .

الموقف الفلسطيني الرفض وبشدة كافة هذه ألأطروحات ألأسرائيلية وويصفها بألأطروحات المستحيلة ، والرافض بشدة مبدأ التجزئة والمفاوضات المرحلية حول قضايا الوضع الدائم ، ويتمسك بمواقفه الثابتة تجاه حل كافة قضايا الوضع الدائم على اساس مباديء القانون الدولي وقرارات الشرعية الدولية ذات الصلة ، وإعتماد مبدأ حل الدولتين  للوصول الى اتفاق شامل ونهائي يضمن :

انسحاب الإسرائيلي الكامل إلى ما حدود ما قبل الرابع من حزيران للعام 1967 ، وإستعادة الفلسطينيين لكافة حقوقهم المشروعة غير القابلة للتصرف ، بما فيها حق العودة وحق تقرير المصير وإقامة دولته المستقلة على كامل الأراضي التي احتلت  عام 1967 وعاصمتها القدس الشريف .

 

يبدو ان الفلسطينيين والعرب قد خدعوا معا بما يسمى بمسلسل الضمانات ألأمريكية الذي كان سخيا ولم يتوقف منذ انطلاق عملية السلام في مدريد عام 1991 اوحتى يومنا هذا ، وتماد العرب والفلسطينيين في تصديق تلك ألأوهام  بدءا من وعود الرئيس بوش منذ انطلاق عملية السلام في مدريد عام 1991 مرورا بوعود الرئيس كلينتون الى عهد الرئيس اوباما في ولايته الثانية ، اي وعود وتعهدات امريكية على مدى اكثر من 23 عاما ، افقدت الفلسطينيين اكثر من نصف مساحة الضفة الغربية وزادت من هيمنة ألأحتلال ألأسرائيلي وحصاره لقطاع غزة والضفة الغربية معا .

نذكر هنا وللأهمية  ما قاله الرئيس ألأمريكي جورج بوش في افتتاح اعمال مؤتمر السلام في مدريد ، والتي اشار فيها ان عملية المفاوضات سوف تستمر على نطاقين بين إسرائيل والدول العربية من جهة وبين إسرائيل والفلسطينيين من جهة اخرى وسوف تتم المفاوضات على أساس القرارين 242 و 338. و"بالنسبة للفلسطينيين والإسرائيليين فان المفاوضات يمكن أن تتم على مراحل وقال بالحرف الواحد نحن نتحدث عن إقامة حكم ذاتي مؤقت وأن الوضع يمكن أن يستمر على مدى خمسة أعوام وبعد ثلاثة أعوام فان المفاوضات سوف تكون حول الوضع النهائي ولا يمكن لأحد أن يضمن بأي دقة ما هي النتائج النهائية لذلك . وفي نفس القاعة ونفس التوقيت قال اسحاق شامير ايضا : أن "هدف التفاوض المباشرمع العرب والفلسطينيين هو التوقيع على معاهدات سلام بين إسرائيل وجاراتها والتوصل إلى اتفاق على ترتيبات مرحلية للحكم الذاتي للفلسطينيين .

 

منذ بداية المفاوضات نصح كبير عقلاء المفاوضين الفلسطينيين المرحوم الدكتور حيدر عبد الشافي القيادة السياسية الفلسطينية ، بألأنسحاب من المفاوضات ، مطالبا بتحديد المرجعيات التفاوضية على المسار الفلسطيني بأن تكون واضحة ووفق معايير وشروط محددة  ، مبديا كما سبق وأشرنا اعلاه تخوفه الشديد من النوايا ألأسرائيلية ، وقد ثبت ان قلق وتخوف كبير العقلاء المفاوضين الفلسطينيين وتحذيراته المتكررة للقيادة السياسية الفلسطينية انذاك ، كان في محله .

 

رحم الله كبير العقلاء المفاوضين الفلسطينيين ، الذي ابلغ رسالته التاريخية  وحذر القيادة الفلسطينية مبكرا من عواقب المشاركة في عملية السلام في ظل عدم الوضوح وبدون مرجعيات ثابتة وعدم ألأعتماد على الوعود ألأمريكية والدولية ألأخرى التي ثبت انها جميعها بأنها وعود خادعة وكاذبة . فهل ما زال الوقت يسمح بأن يستعيد المفاوضون الفلسطينيون انفاسهم وأن يعيدوا صياغة الموقف التفاوضي على اسس جديدة   تقوم علىى ألأرادة الفلسطينية ، وليس على اية وعود دولية كاذبة جديدة ، وأن يضعوا بدائل للعملية التفاوضية ، اذا ما ثبت فشل جولة المفاوضات الجارية ، وهي كما يبدو فاشلة ، تضمن استعادة الحقوق الفلسطينية المشروعة .... وإلا فأن على القيادة السياسية الفلسطينية ان تعلن عن استقالتها الجماعية ، ولتتحمل اسرائيل ومن يقف معها مسؤولية ما سيجري بعد ذلك ، لآن حقوق الشعب الفلسطيني امانة تتحمل مسؤوليتها القيادة الفلطينية وحدها .

 

 

--------------------------------------------

اعداد : المهندس فضل كعوش

رئيس سلطة المياه السابق

رئيس لجنة المفاوضات حول المياه السابق