ترجل الفارس القائد أحمد وافي " أبوخليل "

أمسكت القلم بعد تردد دام يومين ، كيف لي أن أرثي قائداً رفيق العمر ورفيق القادة الشهداء التي جمعتنا جميعاً أيام قاسية ولكنها عظيمة لأنها في يقيننا كانت ستقودنا إلى رسم الطريق الذي لم يعرفه قبلنا أحد ، رغم وعورته ومخاطره وما يلفه من غموض .، وما يحفه من شبهات وإلصاق التهم ، ناهيك عن المطاردة الجادة من قبل رجال المخابرات كافة على اختلاف جنسياتهم .

الفكرة كانت محرمة والحديث كان تهمة والتفكير جريمة ، والآفاق مسدودة واليأس سيد الموقف والاتكالية على الغير والانتظار للوعود غير القابلة للتحقيق من قبل أصحاب النظريات وحكام الانقلابات ورؤساء التيجان والصولجان ، فقط ما كان يسمح به .

الطليعة كانت لها قراءتها وقرارها . إذن لابد من بداية . البداية انطلقت ولن تتوقف ، أبطالها رجال آمنوا بحق شعبهم في الحياة على أرض آبائهم وأجدادهم رافضين أشكال الوصاية والتبعية والاحتواء والخنوع والخضوع والاستسلام .

لا تنطبق هذه الصفات إلا على أولئك الرجال الذين اجترحوا وسيلة ومسمى وهدفاً ، وكانت حركة التحرير الوطني الفلسطيني فتح .

إنها البدايات :

أستلهم من الأخ القائد الراحل المؤسس صاحب الفكرة الشهيد خليل الوزير " أبو جهاد " رحمه الله . ماله من تجارب كثيرة ومحطات وأفكار ورؤى وكانت تنطلق بسرعة البرق تاركة وراءها كل ما يخالفها ويعترض طريقها ويعارض رؤيتها .

فأي حديث عن أي قائد مؤسس لا يمكن إلا أن يكون عبر بوابة وذكريات ومناولات القائد الشهيد أبو جهاد .

من هنا أبدأ : ماذا قال أبو جهاد رحمه الله . تحت عنوان فن صناعة القادة في كتابه أبوجهاد :

" أسرار بداياته وأسباب اغتياله " . للدكتور محمد حمزة . حيث كشف النقاب قائلاً :

كانت هناك قائمة من القيادات في الجزائر . تم إرسالها عام 1963 من أكثر من مكان . التقيتها وكانوا معي وهم الأخوة : عبد الهادي السويس ، والشهيد وديع حسن عبد اللطيف ، ووجيه حسن ، وأحمد وافي ، وإبراهيم أبوالنجا ، ومحمد دواس ، وطالب أبو شمالة ، والشهيد محمود الهمشري ، ومحمد أبوميزر ، والشهيد أبو علي إياد ، والمرحوم عايش حرب والمرحوم حسين خضر وعوض البحيصي ، وسيف الدين رحمه ، وأحمد عقل ، وفي ديسمبر 1963 وصل إلى الجزائر القائد الشهيد ممدوح صيدم "أبو صبري " ، وعبد الكريم العكلوك " أبو العبد " رحمهما الله .

كوكبة من القادة أخذت على عاتقها انطلاقة عمل كبير من تحرك على الولايات الجزائرية للمساهمة في عملية التعريب أو التوجه للتدريب العسكري ، وكل ذلك قد تم باقتدار ، وبمساهمة ومساعدة وتأييد وإسناد من الجزائر العظيمة حزباً ورئاسة وحكومة وشعباً .

ولكن ومادمنا ننعي اليوم رجلاً من الرجال الأوائل والرعيل المؤسس فله علينا دين أن نحاول إيفاءه حقه .

إنه " أبو خليل " الذي وقف متحديّاً المحاولات التي رافقت ميلاد منظمة التحرير الفلسطينية حيث أن الفرق شاسع بين أشخاص جيء بهم عبر قنوات ليست بعيدة عما كان يدور في الساحات العربية من رؤى بل هي مكملة لها وبين الطليعة ، ولم نكن نريد أن ندخل في صراع فلسطيني فلسطيني ، بل تسلحنا بالإرادة الثورية التي سرعان ما عشقها شعبنا وترجمها عملاً بطوليا شكل انطلاقة الثورة ، غير أولئك الذين اعتبروها خطوة مغامرة لم تراع التوقيت ، بل هي مجموعة من الشباب المتسرع المتهور ، غير القارئ والمقدر لعواقب الأمور ، بل ويريدون أن يجروا المنطقة إلى عمل يحرج الأنظمة والقيادات والأحزاب ، ويفسد عليهم برامجهم التي كانت غذاءً يوميًّا ، ومخدرا للعقول ومجمدًا للفكر ليبقى متحجراً مأموراً .

فقيدنا كان يكبرنا سنّاً ، فقد عمل في السعودية واستغني عنه لأفكاره الوطنية التي لم ترق لأي نظام في تلك الحقبة الزمنية ، فتم الاستغناء عنه ، وقدم إلى الجزائر وكله يقين أن المناخ ملائم كيف لا ، وفي الجزائر قيادة ثورية فتية آمنت أن الكفاح المسلح هو الطريق الوحيد لتحرير الجزائر ، وما إن التقت بالطلائع الفلسطينية ، وقد كانت على علم بأن الشعب الفلسطيني وخاصة طلبة وتلاميذ المدارس كانوا ملزمين بجمع ما أمكنهم جمعه من مال ويرسلونه إلى ممثلي الثورة الجزائرية في القاهرة سواء كان الرئيس الراحل هواري بومدين ، أو بن يوسف بن خدة ، أو فرحات عباس ، وكانا رئيسين للحكومتين الجزائريتين في المنفى زمن الثورة الجزائرية .

لم ينس الجزائريون هذا الدور البسيط ولكنه كبير في معناه ومغزاه وأقسموا أن يردوا الجميل للفلسطينيين ، وترجم ذلك في قدرة أخينا أحمد وافي " أبو خليل " في أن يكون خير من يمثل التنظيم الجديد " الذي حمل اسم حركة فتح " حيث فتحت الجزائر أبوابها للمعلمين والطلاب . وبالأخص كلياتها العسكرية وكانت أول دورة عسكرية في صيف 1964 للأخوة المذكورين آنفاً وتلتها الدورة العسكرية للضباط الذين كانوا نواة للجناح العسكري للحركة وهو العاصفة .

لقد حظي فقيدنا باحترام ومحبة عاليتين لما تمتع به من صفات القائد الوطني الكبير .

انطلقت الثورة واشتدت حولها و عليها المؤامرات ، ولكنها تمددت على حدود دول الطوق ، وكان هذا يتطلب سلاحاً وإمكانيات مادية ، ومن خلال علاقاته فتحت الجزائر الشقيقة مخازن أسلحتها وقدمت احتياجات الثورة من الأسلحة اللازمة كافة .

لفقيدنا نشاط متميز داخل الوطن من خلال العائدين لأرض الوطن في فترات العطل ، وكلفوا بمهام مختلفة ، تركت آثاراً أقلقت الإسرائيليين ، وكان لا بد من التخلص منه ، وبنفس الطريقة التي تم بها التخلص من الضابط المصري الكبير مصطفى حافظ رحمه الله . عام 1956 في غزة ، حيث قام بمهمة إرسال الفدائيين الفلسطينيين ليقاتلوا الجيش الإسرائيلي داخل الوطن المحتل . فقد طالته يد الغدر عبر طرد ملغم سرعان ما انفجر فيه لحظة فتحه وأودى بحياته ، تكررت الحالة مع الأخ القائد أبو خليل رحمه الله . كان متأكداً أنه جواز سفر جزائري منتهية مدته ليصار إلى تجديده ، وكان الطرد مسبوقاً باتصال هاتفي من صاحب الجواز الذي أرسله له للتجديد . لم يخطر على باله أنه سينفجر ويتسبب في فقدان أحد عينيه . وأصابع يده ، وسمعه . حيث كان يجلس أمام مكتبه في ذلك الحين الأخ القائد عبد الله الإفرنجي " أبو بشار " الذي لم يصب بأي أذى بحمد الله .

كان ذلك في شتاء 1972م في مكتب فلسطين الذي منحته الحكومة الجزائرية لنا بداية 1963 والذي أصبح لاحقاً مكتباً لمنظمة التحرير الفلسطينية .

رغم ما لحق بهذا الرجل المناضل الكبير من أذى إلا أنه بقي شامخاً متألقاً ومتعملقاً ، يحقق الإنجازات الوطنية الكبيرة على الساحات كافة ، فله الفضل باحتضان الجزائر لمؤتمرات نقابية عامة عديدة ، أو لدورات المجلس الوطني المتعاقبة .

ويسجل له أن الجزائر الشقيقة احتضنت دورات عسكرية متعددة الاختصاصات ، وحضرنا سوياً تخريجها وعلى وجه الخصوص دورات تخريج الطيارين الذين برعوا وتفوقوا على نظرائهم من عرب وأفارقة وأسياويين في كلية الطيران بوهران بالغرب الجزائري ، وكذلك كلية شرشال وكلية البحرية في الشرق والغرب من الجزائر .

ورغم أنه أصيب بحالات إعياء منذ سنوات منعته من مواصلة دوره غير المحدود ، إلا أن الأشقاء الجزائريين لم ينسوا قدراته التي من خلالها حببت إليهم فلسطين وشعبها وقياداتها ، مما حقق لأبناء شعبنا الذين عاشوا في الجزائر الكثير من الامتيازات فاقت حتى أبناء الجزائر أنفسهم .

اليوم يغادرنا صاحب القامة الكبيرة الأخ القائد المناضل أحمد وافي " أبو خليل " ، وقد ترك ميراثاً نضالياً يعتز به كل فلسطيني ، وله على حركة فتح حق التكريم بأرفع الأوسمة .

وله علينا أبناء الشعب الفلسطيني . أن نبقى أوفياء لرسالته التي أفنى حياته من أجل تحقيقها والمتمثلة في إحقاق حقوق شعبنا في العودة وتقرير المصير ، وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس .

طوبى لك أيها القائد . ها أنت تلتحق بقافلة الشهداء ، القادة الذين أحببتهم وأحبوك وفي مقدمتهم القائد الشهيد الرئيس ياسر عرفات " أبو عمار " رحمه الله . ورحم الله شهداءنا كافة .

لقد حملت الأمانة ولم تتوان في حملها ، وأنت أهل لها .

فلك الرحمة أيها القائد الكبير ، المجد لك ، ولكل الشهداء . والشفاء للجرحى والحرية للأسرى .

قال تعالى : "من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا" . صدق الله العظيم .

إلى جنات الخلد أيها القائد ، أقرئ أحبتك الشهداء وعلى رأسهم القائد الشهيد ياسر عرفات سلامنا .