في حياته الحافلة بخصائص الرجال التاريخيين العظام، ومآثر القادة الافذاذ، الذين قلما يجود بمثلهم الزمان، وكذلك في غيابه الذي كان اشد حضوراً من الموت، وابلغ من كل قول يقال، كانت شمس نيلسون مانديلا تفيض بسحرها الاستثنائي عن حدود جنوب افريقيا، ليملأ ضياؤها الابدي مشارق الارض ومغاربها، الامر الذي اضفى على رحيله كل هذه المهابة، وبعث كل هذا الاسى في نفوس المناضلين من اجل الحرية في كل مكان.
واذا كان غياب مانديلا حدثاً مؤلماً لكل من عاصروا كفاحه المجيد، وتابعوا بإعجاب ثباته وصموده، ورأوا في صلابته الوطنية قدوة تقتدى، ومثلاً فذاً في التسامح والترفع عن مشاعر الانتقام، فإنه كان بالنسبة لنا في فلسطين، اكثر من ذلك بكثير، نحن الذين رأينا فيه بحق، صديقاً وفياً لشعبنا، وقوة اسناد اخلاقية لا نظير لها في كفاحنا من اجل تحقيق ذات الهدف الذي قضى في سبيله اب ثوار القرن العشرين.
لقد كانت قصة كفاح شعب جنوب افريقيا تحاكي قصة كفاحنا في فلسطين من كل الوجوه، ان لم تكن الوجه الآخر لهذا النضال المديد ضد الاحتلال والميز العنصري والمصادرات، بذات الفلسفة الاستعمارية هنا وهناك، ونفس النهج والاساليب والادوات، الامر الذي خلق كل هذا التماثل في الظلم والقهر والاستعباد، واوجد كل هذه المشتركات التي تقاسمها شعبان فقيران في مكانين بعيدين، شربا معاً من الكأس ذاتها، وتجرعا كل على انفراد مرارتها حتى الثمالة، على ايدي غزاة غرباء مدججين بالسلاح وبروح الاستعلاء العرقي ضد اصحاب الارض الاصليين.
وعليه، فقد كان بزوغ فجر حرية شعب جنوب افريقيا في اوائل عقد التسعينات، بعد انقضاء ذلك الليل الافريقي الطويل، بمثابة بشارة على فجر فلسطيني قد يتأخر، الا انه سينجلي عن صبح اغر في نهاية المطاف. كما كان خروج نيلسون مانديلا من غياهب حكم الميز العنصري آنذاك، إيذاناً بنهاية اكثر النظم العنصرية
وضاعة وكراهية وعنفاً في التاريخ، وعلامة تأكيد على قرب نهاية نظام له نفس الخصائص البغيضة في بلادنا فلسطين، وذلك على قاعدة ان لكل ليل نهاية، وان كل احتلال الى زوال، مهما بطش وظلم وعاند الحتميات التاريخية.
دعونا بين يدي هذا الغياب الاليم، ان نستذكر معاً زيارة الكبير نيلسون مانديلا الى بلادنا عام 1999، عندما دخل بقامته الفارعة عتبة المجلس التشريعي في غزة برفقة الرئيس الشهيد ياسر عرفات وسط تصفيق وترحيب يجلان عن الوصف.
حيث استقبلت الضيف العزيز –وكنت رئيساً للمجلس التشريعي في حينه- قائلاً: اهلاً بك رمزاً من رموز النضال ضد الاستعمار والقهر والتمييز العنصري، مرحباً بك واحداً من اعظم رموزنا النضالية الفلسطينية. فباسمكم وتاريخكم وتجربتكم الكفاحية الغنية، تظل مرشداً ومعلماً للمناضلين، وصوتاً يخترق عتمة الزنازين لاسرانا الابطال القابعين في سجون الاحتلال، تشد من ازرهم، ويستمدون من صمودكم الاسطوري انموذج الصمود وهم يرددون "يا ظلام السجن خيّم.. اننا نهوى الظلاما. ليس بعد الليل الا.. نور فجر يتسامى".
ودعونا ايضاً، ان نستذكر سوية بعض ما جاء في كلمة الراحل مانديلا امام المجلس التشريعي، حين قال انه لشرف لي ان اكون هنا هذا الصباح... ان تاريخ شعبينا، الفلسطيني والجنوب افريقي، يتقاطع باشكال عديدة ومريرة، الى الدرجة التي اشعر بها انني هنا في بيتي... انني اسجل بفخر وسعادة انكم انتم شعب فلسطين ستشهدون ميلاد او لربما قلت اعادة بناء دولتكم. لقد كانت رحلة شاقة ومريرة وعسيرة... رأيتم تدمير بيوتكم ومصادرة اراضيكم، اقصيتم عن اغلى ما تملكون، ولكنكم اليوم تنبعثون من الظلام الى مستقبل مضيء ينتظركم.
وكما كانت زيارة مانديلا تلك بمثابة مشاركة شخصية في احتفال مبكر على قيامة فلسطين، فقد كان نيل شعب جنوب افريقيا لحريته، قبل ذلك، هو الآخر بمثابة احتفال صاخب لكل الشعوب المضطهدة، وفي مقدمتها الشعب الفلسطيني، الذي آثر قائده ورمزه الخالد ياسر عرفات، ان يحضر بنفسه مراسم ذلك الاحتفال العظيم في بريتوريا، عام 1994، وان يقدم التهنئة باسم الشعب الفلسطيني الى نيلسون مانديلا،
بطل تلك الملحمة التاريخية الملهمة، خصوصاً من جانب شعب كان يكابد، وما يزال الى يومنا هذا، كل صنوف العسف والجور والافتئات، على ايدي النظام الوحيد في العالم، الذي كان وحده متحالفاً مع نظام الابرتهايد على رؤوس الاشهاد.
واليوم، اذ نشارك شعوب العالم قاطبة مشاعر الحزن والاسى على غياب بطل حقيقي من ابطال هذا الزمان، جسد في حياته المديدة صور التضحية والشجاعة والصمود في اسمى تجلياتها الانسانية، فإننا نرى في هذا الغياب خسارة سياسية فلسطينية لا تعوض، الا في ما تركه لنا نيلسون مانديلا من مآثر نضالية تجل عن الوصف، وسيرة ذاتية فريدة، عابقة بدروس الصبر والتسامح والصدق، احسب انها ستظل بمثابة مشاعل مضيئة على الطريق لكل مناضل حقيقي، ضد الطغاة والغزاة في اي بقعة من بقاع الارض.
لقد كان مانديلا في سنين اعتقاله الطويلة، ومعزله الانفرادي، مثالاً حياً شامخاً في معنى الصمود والصبر لاسرانا الابطال في معتقلات الاحتلال، وكان تمسكه بالمبدأ الذي لا يقبل المساومة، نموذجاً يحتذى به لدى قادة شعبنا الكبار، ممن قضوا في سبيل المبدأ ذاته دون ان يبدلوا ادنى تبديل، كما كان انتصاره على ابشع نظام حكم عنصري، وكأنه هدية مبكرة لنا، وعربون انتصار مؤكد، مهما بعدت الشقة وطالت مسيرة الكفاح والتضحيات، ان لم يكن ذلك الانتصار المتحقق في اقصى القارة السوداء اوائل عقد التسعينات، ذخراً معنوياً هائلاً، واملاً نستمد منه قوة اضافية في مواجهة اشد المحن واقسى الصعاب.
انه نيلسون مانديلا صديق الفلسطينيين، ورفيق رمزهم التاريخي ياسر عرفات. لذلك نكّسنا العلم الفلسطيني حداداً على وفاته، وحزناً عليه، حزن من فقد قوة اسناد سياسي واخلاقي لا مثيل لهما بالنسبة لشعب لديه قضية تكاد تكون طبق الاصل عن تلك القضية التي دفع ايقونة الحرية هذا في سبيلها سبعة وعشرين عاماً من حياته وراء القضبان، الامر الذي جعلنا ننظر اليه كواحد منا، نحن الذين زرناه في جنوب افريقيا بعد نيلها الحرية والاستقلال، وعقدنا مع بلاده اتفاقية للتعاون في عدد من المجالات البرلمانية والعلمية والتعليمية والاقتصادية، وذلك كله قبل ان
نستقبله زعيماً في بلادنا في ذات العام، استقبال اي اسير فلسطيني خرج لتوه من وراء القضبان.
ونحن اذ نودع اليوم هذا الرمز الانساني الكبير والمتميز، وننحني احتراماً لاسمه وسيرته النضالية، ونعتز كثيراً بصداقته لشعبنا، فإنه يمكننا القول ان نيلسون مانديلا بات اليوم فكرة تستعصي على الموت والفناء، فما بالك اذا كانت الفكرة نيّرة الى هذا الحد، وكان رمزها شامخاً كل هذا الشموخ، وكان اثرها ساطعاً سطوع الشمس. وليس ادل على ذلك من ان غيابه اليوم صار اشد حضوراً من ذي قبل، وان ذكراه النبيلة تنشر عطراً وسحراً ويقيناً لا يقبل الامحاء ابد الدهر.
ولا يتسع المقام في هذه العجالة استذكار كل ما حفلت به تجربة نيلسون مانديلا من دروس ثمينة وعبر مفيدة، لا سيما بالنسبة لنا نحن في فلسطين، غير ان ذلك لا يلغي ضرورة الاشارة الى الخلاصة الكبرى الكامنة في تجربة نيلسون مانديلا الرجل العظيم الذي بيّض وجه العالم، ونكّس اعلام الدول حداداً على فراقه، ونعني بذلك قوله "نغفر ولا ننسى" في اشارة قوية على تساميه عن مشاعر الانتقام.
ونحن في هذه المناسبة الحزينة لا نرثي نيلسون مانديلا، ولا نبكي رحيله عن دنيانا، وانما نود ان نشدد على حقيقة ان الابطال لا يموتون، وان ذكراهم لا تضمحل مع مرور الوقت، ان لم نقل انهم الخالدون في الضمائر، الباقون في وجدان شعوبهم الى ما شاء الله. فكيف اذا كانوا من وزن مانديلا، وفي طول قامته النضالية، التي آلت الى قدوة عظيمة، ومثالاً ملهماً لكل الشعوب.