شكلت زيارة الامين العام لجبهة التحرير الفلسطينية الدكتور واصل ابو يوسف والوفد المرافق الى الجزائر نقطة تحول هامة، فالجزائر دولة عربية سجلت في التاريخ حضورا ثائرا وبطولات أجبرت الاحتلال على الرحيل وقدمت مليون واربعمائة شهيد في سبيل التحرير، والجزائر كانت دائما قريبة من الحضور والنضال والحلم والفعل الفلسطيني ، فكيف لا وهي من عانت من الاستعمار ، احتضنت قوات الثورة الفلسطينية واسرهم حين أجبر الفلسطيني أن يغادر من لبنان بعد صمود بطولي بمواجهة الاجتياح الصهيوني عام 1982، وبعد عدة سنوات من مغادرة بيروت كان الحلم الفلسطيني يقترب ، حيث استضافت الجزائر دورة المجلس الوطني الفلسطيني " دورة اعلان الاستقلال الفلسطيني " على اراضيها رافضة كافة الضغوطات التي مورست عليها ، فاعلن الرئيس الشهيد ياسر عرفات قيام دولة فلسطين وعاصمتها القدس ، مع عزف الجيش الجزائري النشيد الوطني الفلسطيني فدائي فدائي ..
ان زيارة وفد جبهة التحرير كانت تعبير قوي عن صحة الاتجاه الثوري وعن عمق تقدير الجبهة لدور الجزائر ، والعلاقة التريخية التي ربطت الجبهة عبر الشهيد الامين العام ابو العباس مع القيادة الجزائرية .
فالنضال العربي بمستواه الثوري الحاسم، والمستقبل العربي بمبادئه الانسانية الشاملة قد كتبت سطورهما الاولى ورُسمت صورتهما المقبلة الجزائر وفلسطين، حيث جرب العرب أعمق ألم انساني. والامة التي تقدّر عليها مثل هذه التجربة، لا يمكن الا ان تعطي اعمق ما عندها من الابداع بمواجهة قوى الاستعمار الامبريالية الصهيونية التي تحاول اليوم عبر ادواتها تفتيت المنطقة الى كانتونات طائفية ومذهبية بهدف الوصول لتصفية القضية الفلسطينية عبر مشروع كيري .
ومن هنا فان خيار الثورة الجزائرية والثورة الفلسطينية اعطي معاني رئيسية فكانت المقاومة في لبنان وفلسطين التي لقنت العدو الصهيوني دروسا قاسية ، وها هو شعب فلسطين يستمد من الجزائر معان وافعال كثيرة عميقة ، رغم وقوف العرب من اعدائهم وقفة المدافعين.
وامام كل ما يجري من تأمر بحق فلسطين وقوى المقاومة نقول اننا سنبقى امناء على تضحيات الشهداء وان بوصله نضالنا وبناء مستقبلنا ستنتصر من عمق آلام شعبنا في فلسطين .
ان ما جرى من لقاءات بين وفد جبهة التحرير الفلسطينية برئاسة الامين العام الدكتور واصل ابو يوسف مع الامين العام لجبهة التحرير الوطني الجزائري والمكتب السياسي ومع حزب العمال الجزائري ومع كادر سفارة فلسطين ومع ممثلي الفصائل الفلسطينية من وضوح في الرؤية ، وما تقدمه الجزائر على مستوى النصيحة والموقف والراي والمشورة لايعادل بثمن، وان الفلسطينيين احوج ما يكونون لذلك ، وخاص ان الجزائر تقف الى جانب الشعب الفلسطيني ليتمكن من بناء دولته وبنيته التحتية ، كما تقف موقف الداعم لجهود وخطوات المصالحة واستعادة الوحدة وبناء المؤسسات وتصليب الجبهة الداخلية الفلسطينية أمام الاحتلال الإسرائيلي .
مع ذلك، ورغم كارثية اللحظة وقساوة التحديات التي تواجه المنطقة والقضية الفلسطينية، فكان موقف جبهة التحرير الفلسطينية مدركا لطبيعة المرحلة، وخاصة ان تجربة الجزائر غنية في غمرة العمل والنضال والصراع ، ونحن اليوم نؤكد بان الصراع الذي يخوضه شعب فلسطين مهما اشتدت المؤامرات في نهاية المطاف هو صاحب الكلمة والفصل، وهو القادر على تحقيق أحلامه وآماله من خلال مقاومته ووحدته وصموده .
وشعب فلسطين بما يمثل من حقيقة ديموغرافية وتطلعات تحررية وعدالة قضية ومن عمقٍ حضاري وإنساني، ومن تجارب وتراثٍ نضالي وتضحيات، لا يمكن إلا أن ينهض من جديد ، هذه هي دروس ثورات العشرينات، والثلاثينات والأربعينات وصولاً إلى انطلاقة مقاومته الوطنية التي توجت بنضال مستمر في سفر التاريخ.
أن شعب فلسطين بكل هذا العمق العربي والحضاري، لا بد إلا أن يكون شعب المستقبل، مهما بدت الأمور صعبةً وقاسية في هذه الأيام. فالأمة العربية ليست مجرد قبائل متناحرة، أو أمة ولدت على هامش التاريخ، وإنما هي أمة كان لها مأثرة في قيادة العالم على مدار قرون متتالية، أمة عريقة ذات تراثٍ ومنجزات إنسانية غطت كافة مجالات حقول العلم بلا استثناء، أمة عاشت قمة الازدهار ، وهي بما تختزنه من إمكانيات بشرية واقتصادية واستراتيجية إنما هي مجبرة على مواجهة المخططات التي تستهدف وجودها اتصالاً بتطلعاتها المستقبلية.
ان نظرة جديدة وعميقة للصراع ولمخططات وممارسات ( إسرائيل) وسياستها تبين جوهر المشروع الصهيوني كمشروع استيطاني عنصري يستهدف الهيمنة السياسية والاقتصادية على فلسطين والأمة العربية وكل ذلك تحت مظلة عسكرية تستند إلى تفوقها المطلق سواء في الأسلحة التقليدية أو النووية، وبإسناد كامل من الولايات المتحدة الأمريكية، وبهذا المعنى يأخذ حل التناقض التناحري مفهوم حل الصراع على أساس التصفية السياسية للقضية الفلسطينية ولحقوق الشعب الفلسطيني الوطنية والتاريخية وفرض الرضوخ والاستسلام على الأطراف العربية وإجبارها على التساوق مع المشروع المعادي والانزلاق فيه.
ومن هنا نرى ان طبيعة التناقض التناحري ودوام الاشتباك التاريخي، رغم المشروع التسووي التي لا يتعدى إدارة الأزمة دون حل لها ، بما يتيح للتحالف الأمريكي ـ الإسرائيلي، تحقيق انتصارات ونجاحات توسعية استعمارية. وبالرغم من كثافة الحملة الإعلامية، العالمية والعربية، والتي تحاول ترويج العملية الجارية على أنها "عملية سلام"، وان الضغوطات على القيادة الفلسطينية للقبول بمشروع كيري كي تقبل بالتوقيع على اتفاق اطار يمنح السلطة فقط مزيدا من الاراضي في الضفة الفلسطينية مقابل مصادرة حوالي 60 بالمائة من مساحة الضفة تحت عنوان بناء مستوطنات كبرى او تحت الحفاظ على الامن لصالح الكيان الاسرائيلي ، هذه التسوية لا يمكن ان تجد لها صدى وتأثيرا عند الشعب الفلسطيني، في الوقت التي تثبت فيه حقائق التاريخ والواقع أن ما يجري ليس سلاما حقيقيا، بل مشروع امريكي ياتي في سياق المخططات و التغييرات الدراماتيكية الهائلة التي تعصف بالعالم وبالوضع العربي من خلال التوافق الامريكي مع القوى المتأسلمة والتكفيرية والتي تدمر مقدرات الشعوب بقتلها وهمجيتها للانسان والحجر .
ختاما : لا بد من القول ان اي تسوية لا تلبي الحد الأدنى من الحقوق المشروعة والتاريخية للشعب الفلسطيني لا يمكن ان تمر ، وهذا يتطلب من الجميع الاستمرار بالتحريض الشعبي وتعبئة الجماهير لمواصلة المشروع التحرري، فهدف التسوية الجارية تدمير الأهداف الوطنية الفلسطينية لا تحقيقها، كما يتطلب ايضا الاستفادة من التجربة الجزائرية والتي نقدرها عاليا ويجب العمل بها لتكون نموذج نضالي في مواجهة الاحتلال والاستيطان واستعادة الحقوق المشروعه للشعب الفلسطيني في الحرية والاستقلال والعودة.