بالرغم من أن إسرائيل تفرض وقائع على الأرض تجعل الدولة الفلسطينية على حدود 67 شبه مستحيلة وهذا ما يقوله مسئولون في الاتحاد الأوروبي وما تحدثت عنه وثيقة أمريكية تقول ذلك بالإضافة إلى تصريحات مسئولين فلسطينيين بما فيهم المفاوضون أنفسهم والرئيس أبو مازن ، كما أن الإسرائيليين وخصوصا نتنياهو وحكومته يرفضون قيام دولة فلسطينية على حدود 1967 ... بالرغم من ذلك يستمر الحديث عن حل الدولتين .فكيف نفسر هذا التعارض والتناقض ؟.
يبدو أن حل الدولتين وما يتضمن من قيام دولة للفلسطينيين بات حمال أوجه أو ينتمي للمصطلحات المراوغة التي لا يمكن ضبطها ،الوطنيون الفلسطينيون يريدوها وطنا قوميا انطلاقا من حقوقهم التاريخية في فلسطين، والعالم يريد أية دولة للفلسطينيين وأينما تكون كحل للصراع ،والإسرائيليون وخوفا من الدولة الواحدة وحتى يقيموا دولتهم اليهودية يريدون دولة مسخ تستوعب غالبية المواطنين الفلسطينيين الذين تعتبرهم قنبلة موقوتة .
وهكذا لأن بديل قيام دولة فلسطينية مستقلة هو الدولة الواحدة ثنائية القومية وهو الحل الذي ترفضه إسرائيل ،أو استمرار حالة الصراع إلى ما لا نهاية وهو ما تخشاه إسرائيل وما يرفضه العالم ، فإن المتوقع قيام دولة فلسطينية ،ولكن بجغرافيا مختلفة .
المشكلة تكمن في أن الدولة الفلسطينية المستقلة لم تكن هدفا واضحا في كل عملية التسوية ، فبالرغم من انطلاق التسوية مع أوسلو وقبله مؤتمر مدريد وتأسيس التسوية على مبدأ الأرض مقابل السلام ،فلا مؤتمر مدريد ولا اتفاقات أوسلو تحدثت عن دولة فلسطينية على الأراضي المحتلة عام 1967.الفلسطينيون وحدهم فسروا أن اتفاقية أوسلو ستؤدي عند نهاية المرحلة الانتقالية في مايو 1999 إلى قيام الدولة،أما إسرائيل فلم تُلزم نفسها بدولة فلسطينية ولم تتحدث عن إمكانية قيام دولة للفلسطينيين إلا بعد أن طرح الرئيس بوش فكرة الدولة عام 2002 ثم تمت الإشارة إليها في خطة خارطة الطريق ثم في قرار مجلس الأمن 1515،وبالرغم من هذا الاعتراف وكما ذكرنا كانت إسرائيل تعمل كل ما من شانه تدمير الحلم الفلسطيني بالدولة وخصوصا من خلال استمرار الاستيطان.
أيضا فإن الدولة الفلسطينية المستقلة في الضفة الغربية وقطاع غزة وعاصمتها القدس الشريف لا تؤسس على أي قرار دولي واضح بل على تفاهمات ووعود ،حتى القرار 1515الصادر عن مجلس الأمن في نوفمبر 2003 والخاص بتبني خطة خارطة الطريق التي تحدثت عن دولة للفلسطينيين لم يحدد مكان وحدود الدولة الفلسطينية حيث جاء فيه: يؤكد من جديد على رؤيته التي تتوخى منطقـة تعيش فيها دولتان، إسرائيل وفلسطين، جنبـا إلى جنب ضمن حدود آمنة ومعترف بها [... ]يؤيد خريطة الطريق التي وضعتها اللجنة الرباعية، القائمة على الأداء والمفضيـة إلى حل دائم للنزاع الإسرائيلي – الفلسطيني يقوم على أساس وجود دولتين، فالقرار يتحدث عن مرجعية قراري مجلس الأمن 242 و 338 ويتحدث عن (منطقة) تعيش فيها دولتان ولم يتحدث عن دولة فلسطينية مستقلة على الأراضي المحتلة عام 67 ولم يتحدث أيضا عن القدس وحق العودة .
أيضا قرار الاعتراف بفلسطين دولة مراقب في نوفمبر 2012 لم يحل الإشكال لأنه قرار صادر عن الجمعية العامة وبالتالي غير ملزم ، والأهم من ذلك انه لم يتم اعتمده كمرجعية للمفاوضات الجارية حيث عادت المفاوضات لتجري على أساس اتفاقية أوسلو وخطة خارطة الطريق اللتان تعتبران الضفة والقطاع أراضي متنازع عليها.
هذا الغموض المقصود هو ما شجع ويشجع إسرائيل على التلاعب بفكرة حل الدولتين،فبما انه لا يوجد مرجعية دولية تلزم إسرائيل بحدود الدولة وسيادتها، فهذه الدولة للفلسطينيين يمكن أن تكون في الأردن أو هي الأردن وقد ناقش الكنيست الإسرائيلي قبل فترة هذه الفكرة، وقد تعمل إسرائيل أن تكون هذه الدولة في قطاع غزة فقط. وشارون لم يخرج من غزة عام 2005 عبثا،أليس قطاع غزة مجاورا لإسرائيل ولا يوجد به استيطان ومتواصل الأجزاء وقابل للحياة كما تقول خطة خارطة الطريق،ما دام له بحره وحدوده مع مصر؟ ! وقد تكون الدولة كانتونات فيما سيتبقى من الضفة يديرها فلسطينيون وليسموها دولة أو ما يشاءون ما دامت السيادة والأمن لإسرائيل، وفي هذه الحالة يتم استثناء قطاع غزة وهذا ما قال به الرئيس أوباما قبل أيام عندما تحدث عن حل يستثني غزة .
الانقسام الفلسطيني والانقسام الجغرافي بين غزة والضفة وعجز السلطة والنخب السياسية الفلسطينية على الارتقاء لمستوى التحدي هو ما يجعل لإسرائيل الخيار في رسم ملامح وحدود هذه الدولة إن اضطرت أن تمنح الفلسطينيين دولة،وللأسف فإن البعض من الفلسطينيين يتقاطعون مع إسرائيل في هذه الرؤية.فحركة حماس لا تسعى الآن إلا لدولة في غزة وأن يتم التعامل مع الضفة وبقية فلسطين كأراضي محتلة يُترك أمرها للزمن أو لنهضة وخلافة إسلامية قادمة تقوم بمهمة تحرير المقدسات !، والحكومة في رام الله تتجه قسرا نحو الرؤية الاقتصادية والأمنية للحل التي تحدث عنها نتنياهو وبلير وتشجعها الإدارة الأمريكية الحالية بل ويتبناها وزير الخارجية كيري،هذه الحكومة باتت تنسلخ شيئا فشيئا عن المشروع الوطني وتفقد كل مضامين سياسية سيادية لتختص فقط بتدبير الأمور الحياتية لسكان الصفة الغربية في انتظار إما الحل الأردني أو ما تتفتق عنه العبقرية الصهيونية من حلول ،وللأسف فإن ما تسمى فصائل العمل الوطني تقف موقف المتفرج أو كشاهد زور على ما يجري، فلا قادرة على الدخول بالحكومة وتَحَمُّل المسؤولية ولا قادرة على وقف مسلسل الانهيار الذي يتعرض له المشروع الوطني.
وهكذا مقابل تراجع فرص دولة 67 التي تحدث عنها إعلان الاستقلال في الجزائر 1988 يتم بالخفاء التخطيط لدولة للفلسطينيين لا تتطابق مع حدود 67 وغير منصوص عليها ضمن أي قرار أو اتفاقية دولية، أو لإعادة الأمور إلى ما كانت عليه قبل 67 من خلال ربط الضفة بالأردن ، وقطاع غزة بمصر ،و لكن ضمن صيغة جديدة تأخذ بعين الاعتبار المستجدات الوطنية الفلسطينية.
هناك فرق بين الدولة الفلسطينية وبين البحث عن دولة للفلسطينيين ،الأولى تأكيد حق تاريخي للفلسطينيين على أرضهم التاريخية ،والثانية تأتي نتيجة صفقة إقليمية دولية أو منحة من واشنطن أو إسرائيل وهكذا دولة لن يُكتب لها الحياة طويلا.
الدولة الوطنية المستقلة تراجعت أيضا بسبب أخطاء فلسطينية داخلية
وتراجعت بسبب تراجع حاملها الوطني وهو منظمة التحرير وحركة فتح
وتراجعت بسبب الانقسام الذي يؤسٍس لدولة غزة
وتراجعت بسبب مشروع إسلام سياسي لا يؤمن بالدولة الوطنية
وتراجعت بسبب إحياء الخيار الأردني ولو بالخفاء
وتراجعت بسبب أن السلطة حلت محل الوطن والدولة