من نافلة القول ان مشاركة القوى اليسارية المستنيرة في انتفاضات وثورات ما يسمى بـ "الربيع العربي" لم تكن فاعلة ومؤثرة وليست بالمستوى المطلوب، فهي آخر من شارك في الحراك الشعبي العفوي الغاضب الذي انطلق من الشارع مباشرة، ومن قوى شبابية ليس لها علاقة بأي من قوى اليسار الثوري ، التي لا تزال تعيش في ايديولوجيات فات زمانها.
ورغم شعاراتها عن الديمقراطية والتغيير ، الا ان القوى اليسارية والمدنية تراجع وتقلص دورها في العقود الاخيرة لاسباب موضوعية وذاتية ، وابتعدت عن الهم والنبض الشعبي ، الذي قال كلمته واضحة دون لبس أو تأتأة ، ان ما يريده ويرنو اليه هو الحرية والعدالة والخبز والعيش بشرف وكرامة في مستقبل مشرق وغد افضل ، والخلاص من القهر والفقر والجوع والتخلف والظلم والاستبداد.
وبالرغم من ان الحراك الشعبي الواسع في البلدان العربية كان يحمل قيم وشعارات اليسار ، الا أن الاصوليات وحركات الاسلام السياسي استفادت من نتائجه، خاصة في مصر وتونس.
لا ريب ان القمع والارهاب والاستبداد الذي عرفته الأقطار العربية ضد كل من يحمل مشروعاً تنويرياً نقدياً عقلانياً وديمقراطياً كان شديداً للغاية . وكانت قوى وحركات اليسار الديمقراطي في نضالها وكفاحها على النقيض من الانظمة الاستبدادية الديكتاتورية الحاكمة بالحديد والنار، على جميع المستويات الثقافية والسياسية والاقتصادية ، ما أدى بهذه الأنظمة الى ممارسة كل أشكال التضييقات والخناق عليها بهدف ضربها ومحاصرتها ولي ذراعها والحد من نشاطها التعبوي التنويري ، ومن خلال تشجيع الحركات الاصولية التي نمت وترعرعت وانتعشت بمساعدة الأنظمة القائمة ، وعملت على مصارعة ومواجهة القوى اليسارية العلمانية الديمقراطية باستغلال الثقافة الرجعية المتخلفة المسيطرة والمهيمنة في مجتمعاتنا العربية، وقامت بتوظيف الدين في خدمة اهدافها وغاياتها ، وتذويت الفكر الماضوي السلفي الاصولي . وهذا الأمر ساهم بشكل كبير في اضعاف الحضور السياسي لقوى اليسار والديمقراطية على المستوى القيمي الموضوعي والشعبي.
لقد سجل التاريخ في الماضي دوراً مميزاً هاماً للأحزاب والتنظيمات والقوى السياسية التقدمية المنتمية لمعسكر اليسار والتقدم ، في نضالها الدائب ضد قوى الاستعمار والامبريالية والرجعية ، ودفاعها عن الوطن والعروبة وقضايا الجماهير الشعبية الفقيرة الكادحة والمنسحقة ، وضد الارهاب الفكري والجسدي لانظمة الاستبداد والجماعات السلفية الاصولية المتطرفة ، وخوضها المعارك الوطنية والطبقية والفكرية والثقافية والتعبوية . وكانت نشراتها وادبياتها السرية والعلنية معبرة بوضوح عن مطالب واهداف واحلام الناس البسطاء وجماهير الشعب المسحوق ، على الرغم من حظر نشاطها ومحاصرتها وقمع محاولات الفكر الديمقراطي من النجاح ، وذلك بفعل قوانين الطوارئ والملاحقات السياسية والاعتقالات لنشطائها واعضائها . وطوال الوقت رفعت وحملت شعارات يسارية بعيدة عن شعارات اسلمة المجتمع ..!
لا جدال ان المنطقة العربية تمر بأكبر عملية تغيير سياسي وثقافي واجتماعي في تاريخها منذ قرون ، تتفاوت درجاتها بين دولة وأخرى . وهذا التغيير يقوده الشباب المتحمس غير المسيس ، وليس النخب السياسية المستلبة أو تلك التي تعيش في زنازين فكرية معزولة عن حركة المجتمع . وما جرى في مصر يشكل ضربة قوية لقوى وجماعات الاسلام السياسي الجهادي التكفيري ، ويشير الى فشل مشروعها الظلامي ، الذي ينتظر من يقوم بالنعي واعلان الوفاة . وعلى ضوء ذلك فإن الفرصة الآن متاحة امام قوى الثورة والتغيير والتقدم ، قوى اليسار والديمقراطية والتنوير في العالم العربي ، الى استعادة دورها ومجدها وموقعها المتقدم في حركة التحديث والتجديد المعاصرة ، وانهاض وعي نقدي نظري مستنير يؤسس لقطب شعبي يساري يحمل برنامج ديمقراطي يساهم في عملية التحول الديمقراطي المدني والتغيير الاجتماعي ونهضة مجتمعاتنا، وقادر على التصدي لكل الأفكار الرجعية والسلفية وتعزيز وتقوية وانتشار القيم الديمقراطية والليبرالية والتقدمية، ومواجهة النظم الاستبدادية القمعية، واجتثاث الظلامية والسلفية من جذورها، التي تحد من تطور ونهضة المجتمع والرقي به.