التصريح الذي أدلى به وزير خارجية الولايات المتحدة "جون كيري" عشية جولته رقم (11) إلى المنطقة، والذي جاء فيه بأن السلام بين إسرائيل والفلسطينيين بات أقرب من أي وقت مضى، ما هو سوى خدعة، وأن زيارته التي جرت بتاريخ "12-12-2013" للمنطقة تهدف إلى إزالة التوتر والخلافات الأميركية-الإسرائيلية، في أعقاب الاتفاق الذي قادته الولايات المتحدة مع إيران، ومطلوب من الفلسطينيين دفع ثمن إزالة هذا الخلاف، ومن الأسهل للولايات المتحدة –العاجزة عن الضغط على إسرائيل- الضغط على الفلسطينيين، فـ "كيري" يطالبهم بالموافقة على تأجيل الإفراج عن الدفعة الثالثة من الأسرى حسب الاتفاق للضغط عليهم، وهذا ما لا تقبل به السلطة الفلسطينية بأي شكل من الأشكال، إذ أنه يشكل الإنجاز الفلسطيني الوحيد من العودة إلى استئناف المفاوضات، وبينما كان الموقف الأميركي بأن تتصدر المفاوضات الإسرائيلية-الفلسطينية، موضوع الحدود ثم امن الجانبين، تراجع "كيري" بتبنيه للموقف الإسرائيلي بأن يكون الأمن الإسرائيلي المدخل لهذه المفاوضات، كما أنه أصبح يتبنى الموقف الإسرائيلي، بتواجد قوات عسكرية إسرائيلية لمدة عشر سنوا، على طول حدود الأغوار البالغة نحو (29) كيلو متر، لتسطو إسرائيل على أراضي الأغوار تحت ذريعة الأمن، كذلك تواجد إسرائيلي على المعابر الحدودية، بشكل غير مرئي كما كان عليه الحال في الاتفاقية المرحلية، في كل من جسر الكرامة، ومعبر رفح، فضلاً عن إنشاء محطات إنذار مبكر على تلال الضفة الغربية، وهذه المطالب التي هدفها التوسع والهيمنة، لا مكان لها في عهد الصواريخ والأقمار الاصطناعية، وفي مرحلة السلام الآمن مع الأردن، على عكس توصيات الجنرال الأميركي "جونز"، بتواجد قوات دولية على حدود نهر الأردن، بقيادة أميركية، مثل "حلف الناتو"، ودول أخرى، دون أن يكون أي تواجد إسرائيلي، غير أن "كيري" يسعى لتبني الرؤيا الإسرائيلية، سواء ما يتعلق بالأغوار، أو المعابر الحدودية، والمجال الجوي، وهذه الفاتورة التي يطالبون الفلسطينيين بدفعها، لامتناع إسرائيل من الاستمرار بالضغط على الكونغرس الأميركي، الذي يعمل على إقرار عقوبات جديدة على إيران، بدلاً من الضغط على إسرائيل بالشأن الفلسطيني، وفقاً للاتفاقات، وقرارات الشرعية الدولية.
الوزير"كيري"، كرر التزام الولايات المتحدة بأمن إسرائيل، وحقها في الدفاع عن نفسها، فكان رد "نتنياهو" عليه بكيل المديح للولايات المتحدة، رئيسها ووزير خارجيتها، مع أن السياسة الأميركية نحو إسرائيل خاصة، والشرق الأوسط عامة، تحتاج إلى متغيرات كثيرة، كي تحافظ الولايات المتحدة على ما تبقى لها من هيبة واحترام في المنطقة، مع قناعتنا بعدم وجود ود بين الإدارة الأميركية والحكومة الإسرائيلية، لكن هذا النفاق المتبادل بين الجانبين، رسالة لتطمين أصدقاء إسرائيل في الكونغرس ولوبياتها، ومع كل ذلك فإن السياسة الإسرائيلية متمسكة بأن أمنها من مسؤوليتها، وترفض الاعتماد على أحد- وحتى الولايات المتحدة- فذاكرة قادة إسرائيل قصيرة، فلولا الولايات المتحدة في حرب تشرين المصرية عام 1973، حين كان وزير دفاعها "موشيه ديان" في طريقه إلى مبنى التلفاز، ليعلن عن انسحاب إسرائيل الكامل من سيناء، وإذ تفاجئه رئيسة الوزراء "غولدا مائير" وتطلب منه العودة، لأن الجسر الجوي الأميركي من الأسلحة الحديثة، في طريقها إلى ساحة المعركة في سيناء مباشرة، ولولا هذا التدخل الأميركي لكانت خارطة المنطقة مختلفة.
المواقف الإسرائيلية لا أمل في تغييرها، إلا إذا مارست الولايات المتحدة ضغطاً حقيقياً عليها، وهذا مشكوك فيه، أو إذا ووجهت بحملة عسكرية شبيهة بحرب تشرين المصرية، أو إذا حدث تغيير جذري في الرأي العام الإسرائيلي، وهذه الاحتمالات بعيدة المنال، على الأقل في المرحلة الحالية، ففي خطاب رئيس الوزراء "بنيامين نتنياهو" في إحدى المناسبات مؤخراً، عدد اشتراطاته للسلام التي لا نهاية لها، بل أضاف شرطاً جديداً هو: عدم حصول إيران على القنبلة النووية، أما الاشتراطات الأخرى المكررة فهي: عدم العودة إلى حدود عام 1967، إلغاء حق العودة، الاعتراف بيهودية الدولة، القدس الموحدة عاصمة إسرائيل الأزلية، إبقاء الحدود مع الأردن بيد إسرائيل، دولة منزوعة السلاح، بقاء الكتل الاستيطانية، بل وبقاء المستوطنات، بقاء جدار الفصل العنصري، سيطرة إسرائيل على المجال الجوي، سيطرة إسرائيل على مصادر المياه، عدم إبرام اتفاقيات عسكرية بين الدولة الفلسطينية ودول أخرى، ولا نعرف ماذا تبقى لدولة فلسطين المستقلة، كما لا ندري ماذا ستكون اشتراطاته القادمة.
هناك مجموعة من المواقف التي أثيرت في الشارع الإسرائيلي، معظمها نحو تشدد أكثر، فرئيس الوزراء "نتنياهو" رد على تصريحات "كيري"، بأن إسرائيل والسلطة الفلسطينية ليستا قريبتين لعقد اتفاق سلام، أما وزير الخارجية "افيغدور ليبرمان"، فهو يعترف بأن الثقة معدومة بين الجانبين، وأن المهمة مستحيلة، وعاد ليكرر الأسطوانة القديمة عن عدم وجود شريك فلسطيني للمفاوضات وإسرائيل تتحفظ على الخطة الأمنية الأميركية، ووزير الحرب "موشيه يعالون" يعرب عن استحالة التوصل إلى تسوية مع الفلسطينيين، أما وزير الاقتصاد "نفتالي بينت" من حزب البيت اليهودي، فإنه يدعو إلى ضم الضفة الغربية لإسرائيل، ويعتبر أن المفاوضات للدعاية فقط، وأنه يعارض إعطاء الفلسطينيين أي قطعة أرض، متنكراً لحقوق الفلسطينيين، وقرارات الشرعية الدولية، مما دفع بالخارجية الإسرائيلية إلى التحذير بأن مثل هذه التصريحات تضر بإسرائيل على الصعيد الدولي، وتضع الدبلوماسية الإسرائيلية في موقف حرج، ويؤكد "بينت" على مواصلة بناء المستوطنات في كل مكان، وكشفت وثيقة إسرائيلية أن موازنة الاستيطان الحالية تضاعفت بعشر مرات.
من جانبه أعرب الرئيس "باراك أوباما" عن قناعته بأن السلام مبني على حل الدولتين على حدود عام 1967، مع تبادل أراضي، وكتبت جريدة "هآرتس 8-12-2013" بأن لهجة "أوباما" يجب أن تقلق معارضي التسوية، أما وزير الخارجية "كيري" فيقول: إذا كنا نؤمن ونهتم بأمن إسرائيل ومستقبلها، وبمستقبل الفلسطينيين، علينا أن نؤمن بأن السلام ممكن، لكن هناك أصواتاً أخرى فالوزير السابق، "دان مريدور" من حزب الليكود، هاجم بشدة زملاءه في الحزب، الذين يعملون على تشريع قانون يغبن حقوق المواطنين العرب داخل إسرائيل، كذلك الموقف من المفاوضات، وأن الأمر الوحيد الذي يهمهم الاستيطان، وضم الأراضي المحتلة، أما المساواة والديمقراطية وحقوق الإنسان فلا وجود لها في تفكيرهم، وهذا إقرار بسياسة التمييز العنصري "هآرتس 19-11-2013"، ورئيس "الشاباك" السابق "يوفال ديسكن"، يهاجم نتنياهو لعدم تجميده الاستيطان، وأن حل القضية الفلسطينية من وجهة نظره أهم من الملف النووي الإيراني، فاستمرار الصراع مع الفلسطينيين أخطر على إسرائيل من الموضوع الإيراني، هذا ما قاله "ديسكن" في محاضرة له في إحدى المراكز الدراسية في تل-أبيب، ومحافظ بنك إسرائيل "ستانلي فيشر" قال: إسرائيل لا تبدو ساعية نحو السلام بصورة جدية، وهي منقسمة على نفسها ما بين الاستيطان، والسلام، أما النائب العمالي "ايتان كابل": فيؤكد لا يوجد حتى الآن مفاوضات أو مسيرة سلام حقيقية"، والكاتب المعروف "غدعون ليفي"، يدعو لفرض عقوبات على إسرائيل لإجبارها على إنهاء الاحتلال "هآرتس 2-12-2013" وقال: لا يحق لـ "نتنياهو" أن ينعى "مانديلا" وهو يحتل أراضي الشعب الفلسطيني، وينتهج سياسة "الابرتهايد".
وخلاصة القول، فإن المفاوضات لا زالت تراوح مكانها، والمماطلة الإسرائيلية مبرمجة لشراء الوقت حتى الانتخابات الأميركية القادمة، وظهور إدارة أميركية جديدة تتبنى المواقف الإسرائيلية بالكامل، فالإدارة الأميركية الحالية، ما بين مصلحتها في إنهاء الصراع، وبين إرضاء إسرائيل ، وهي غير قادرة على إجبار إسرائيل على تحقيق السلام، حيث أن الكونغرس واللوبيات الصهيونية في أميركا، هم حماة إسرائيل والمدافعين عنها، والمتبنين لسياستها، فطريق السلام مغلق، وكان هذا واضحاً حتى قبل استئناف المفاوضات الحالية، ولا يغير من هذا الواقع تمديد المفاوضات لشهر أو أشهر.