من طبائع الإنسان السيكيولوجية التفاؤل باليوم القادم لعلـّه يكون أفضل من الذي سبقه هكذا تـُمنى النفس بالنشاط الروحي الذي يجدّد دورة الحياة بحلوها ومرّها على أمل تحقيق مايصبوا إليه من أمور الدنيا ، إذا كان الصراع قانون لازم الخليقة منذ بدء التكوين فلا عجب أن يكون الأكثر صخباًً بين الجنس البشري الذي سخـّر كل طاقاته العلمية والعقلية للفوزعلى الخصوم المحتملين الذين قد يصنعهم بنفسه أحياناً لإثبات طغيانه بالرغم من المعرفة المسبقة بمحدودية البقاء زمنياً مايعني أن لكل شيءٍ وقت محتوم ، فهل سيحمل العام الجديد في طياته النهايات السعيدة للصراعات المحتدمه في كل مكان كما حلم بها كبير الفلاسفة الطوباويين افلاطون عن المدينة الفاضلة ؟ أم أن تطورات المشهد المأزوم الأخذ بالتصاعد بعد اتساع دائرة الفوضى وانضمام مناطق أخرى مرشحة للصراع على السلطة والنفوذ كما يحدث الأن في جنوب السودان المنسلخة حديثاً عن الدولة الأم بين الرئيس "سيلفاكير" ونائبه المعزول "رياك مشار" أو عودة سياسة الإغتيالات التي تطـّل برأسها من جديد في لبنان مايبقيه على فوهة بركان ، أو مايجري بالعراق المتجه نحو تأجيج الصراع الطائفي وتصفية الحسابات ، أم من السابق لأوانه الحديث عن متغيرات دراماتيكية قد يشهدها العام الجديد .
ليس من باب الترف الفكري أن تطغى سمة التشاؤم غالباً للقراءات الموضوعية للأحداث الدموية التي أعقبت سقوط بعض الأنظمة المستبدّة أمام إرادة الأكثرية المقهورة من شعوب المنطقة العربية خلال السنوات الثلاث الأخيرة ، في حين ظهر عجزالقوى الطليعية والأحزاب الوطنية صاحبة المصلحة الحقيقية بالخلاص من قبضة الحكم الشمولي عن الدور الريادي القادر على استكمال اهداف الثورات والعبور بالأوطان إلى شواطيء الأمان ماأضفى طابع الغموض على النهايات المتوقعة الحدوث بعد انحرافها عن سياقها النوعي ودخول عوامل خارجية مختلفة لها مصالح بإطالة أمد الصراع إلى أبعد حدود ممكن تترجم على أرض الواقع في أماكن متعددة أول ماتهدف إليه تدمير ركائز الدولة الوطنية وتجريدها من عناصر قوتها خدمة لمخططات قديمة جديدة قائمة على تأجيج بؤر التوتر الطائفي والمذهبي ، حتى أضحت القوى المحركة الأصيلة الساعية للتغييرالديمقراطي السلمي المشروع الحلقة الأضعف في مجرى الأحداث فضلاً عن فقدانها استراتيجيا اليوم التالي ماأدى إلى فسح المجال أمام القوى الدخيلة المُصدّرة من كل حدب وصوب ، ودوائر صنع القرار الدولي من جهةٍ اخرى تعبئة الفراغ والتحكـّم بزمام الأمور باتجاه مستقبل مجهول قد يستغرق سنوات طويلة من معاناة التشرّد والألام التي يشكـّل فيها المواطن العربي وقوداً لهذه الحروب التدميرية قبل أن تتضح ملامح الإستقرار المنشود .
لازالت استعادة حقوق الشعب الفلسطيني المسلوبة على أيدي الإحتلال الصهيوني منذ النكبة المشؤومة أم القضايا التي اجمعت حولها الشعوب العربية وقوى الحرية في العالم باعتبارها مفتاح السلم والحرب ليس فقط على مستوى المنطقة بل لما لها من تأثير بالغ على استقرار الأمن والسلم الدوليين ، لكن الجهود المبذولة لإيجاد حل سياسي عادل يستند على أساس قرارات الشرعية الأممية اصطدمت دائما بالتنكرالإسرائيلي لهذه الحقوق مستثمرةً تحلفاتها القديمة مع القوى الإستعمارية وفي وقت لاحق مع الحليف الإستراتيجي الولايات المتحدة الأمريكية ، لذلك لم تتوفر الإرادة الدولية بعد لإرغام كيان الإحتلال تنفيذ مايتوّجب عليه من التزامات تنهي أخر احتلال عرفه التاريخ المعاصر ، وما جلبها إلى مائدة التفاوض في مؤتمر مدريد مطلع تسعينات القرن الماضي وكذلك مسار أوسلو لم يكن سوى تكتيكات متفاهم عليها من موقع الشراكة الإستراتيجية مع واشنطن أملتها ظروف المتغيرات الدولية واحتواء قوات الثورة الفلسطينية المسلحة ، ارادت من وراءه كسب ودّ واشنطن مقابل أثمان وعدم وضع حجر عثرة أمام المخططات الأمريكية لإعادة رسم منطقة الشرق الأوسط الجديد وفق رؤية المحافظين الجدد بعد انهيار الإتحاد السوفياتي وانفرادها بالحلبة الدولية وهو ماتجلى بانضباطها الصارم بعد تلقيها ضربات صاروخية عراقية اثناء حرب الخليج الثانية عام 1991 م على مدينة تل ابيب ، الأمر الذي يؤكد قدرة الولايات المتحدة ممارسة الضغط على حكومة الإحتلال إن ارادت ذلك وليس العكس ، وكذا سعيها المحموم لكسب الوقت اللازم من أجل فرض سياسة الأمر الواقع إذ وجدت عملياً الدعم الأمريكي اللا محدود محفزاً قوياً لأطماعها التوسعية الإستيطانية الإستعمارية وبناء جدران العزل العنصري وتقطيع أوصال الأراضي الفلسطينية وتهويد مدينة القدس وبالتالى منح الفلسطينيين أقل من دولة وأكثر قليلاً من حكمٍ ذاتي بما يضمن بقاءها مسيطرة على منطقة الأغوار الحدودية مع الأردن كما الأجواء والأمن ومصادر المياه الجوفية ورفض حق عودة اللاجئين إلى اراضيهم وديارهم التي شردوا منها إضافة للإشتراطات التعجيزية كالإعتراف بيهودية الدولة الأمر الذي يجرّد القضية الفلسطينية من محتواها وتأبيد الإحتلال إلى مالانهاية ورفع الراية البيضاء أمام عربدة طغيان القوة الغاشمة .
لقد غرقت الساحة الفلسطينية بتفاصيل المفاوضات التي يتمّ فتحها من جديد كلما اقترب موعد تنفيذ مراحلها اللاحقة حدث ذلك عند نهاية المرحلة الأولى عام 1999، حين أقدم شمعون بيرس على عملية عسكرية عدوانية تحت مسمى "عناقيد الغضب" ضد لبنان أدت إلى استقالته دون التقيّد بتنفيذ المرحلة الثانية المتفق عليها وهكذا فعل شارون وباراك ونتنياهو وغيرهما إثر فشل مفاوضات كامب ديفد واندلاع الإنتفاضة الثانية مايؤكد عدم جاهزية المحتلين حتى اللحظة الراهنة التخلـّي عن مخططاتهم التوسعية العدوانية وسياساتهم الثابتة التنكرية تجاه القضية الفلسطينية بغض النظر عن التلاوين الحزبية في اسرائيل خاصةً انها لاتشعر بكلفة الإحتلال بل على العكس من ذلك وجدت المناخ الأمثل لتنفيذ مأربها الإستعمارية الإستيطانية بعد نجاحها زرع بذور الشقاق داخل البيت الفلسطيني وعزل قطاع غزة عن محيطه الفلسطيني ماسهـّل لها الإستفراد بكل طرفٍ على حده ، بينما تماهت السياسة الفلسطينية العشوائية في كثير من الأحيان مع هبوط السقف السياسي تدريجياً للأهداف النهائية للمشروع الوطني التحرري ، ثم انشغل الجميع بترميم نتائج حالة التشظي والإنقسام التي تكرّست منذ سنوات ولايبدوا أنها على طريق النهايات ايضا خلال العام المقبل مالم تحدث مفاجأت كبرى لم تكن بالحسبان حيث لاتوجد مؤشرات تدل على الإلتزام بتطبيق اتفاق المصالحة الوطنية .
ان الخروج من المأزق الراهن يتطلب قبل كل شيء القراءة الموضوعية للحالة الفلسطينية الراهنة وتصويب مسار عملها وهذا مرهون بالمشاركة الواسعة لكافة القوى والمؤسسات المجتمعية الوطنية أخذ دورها وتحمل المسؤولية التاريخية للخلاص من الوضع الداخلي الشاذ عن التقاليد الوطنية الفلسطينية معالجات تخرج عن إطار استنساخ ماجرى حتى الأن ورسم استراتيجية انقاذ وطني لم تستثني كافة اشكال الكفاح الوطني ، كما تخرج من دائرة المفاوضات العبثية تعيد القضية الفلسطينية إلى سابق عهدها من خلال نقل الملف الفلسطيني إلى الأمم المتحدة وعقد مؤ تمر دولي خاص للقضية الفلسطينية يلزم كيان الإحتلال انهاء احتلاله لدولة فلسطين العضو غير الكامل مايعني الإنضمام الفوري لكافة المؤسسات المنبثقة عنها واستثمار المزايا التي تضع اسرائيل تحت المسائلة القانونية والجنائية باعتبارها ترتكب جرائم حرب ضد الإنسانية بإصرارها على العدوان ، لاشك أن أوضاع شعبنا في الشتات ينبغي أن تكون لها الأولويات الوطنية نتيجة مايجري من حروب في المحيط العربي الذي ذهب ضحيتها مايربوا على الفٍ وثمانمائة انسان فلسطيني لاذنب لهم فيها وغياب المئات من المفقودين والمعتقلين ، ان جريمة يندى لها جبين الإنسانية ترتكب الأن بحق الفلسطينيين في مخيمات اللجوء والحكم عليهم بالموت جوعاً في سابقة لم تحدث من قبل الأمر الذي يتطلب بذل أقصى الجهود لدى الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي ووكالة الغوث الدولية والدول العربية وكافة مؤسسات المجتمع الدولي للتحرك الفوري لتأمين الحماية الدولية للمخيمات وإزالة الحصار عنها وتأمين الغذاء والدواء لمستحقيها قبل فوات الأوان ، إنه عام الكوارث المفتوح .......