الشيزوفرينيا السياسية

بقلم: أحمد إبراهيم الحاج

الشيزوفرينيا السياسية
الجزء الخامس
من كنعان في عيادة الطب النفسي

..................................................
تناول الطبيب نتائج التحاليل.
تفحَّصها ورقة ورقة،
استدار وناظر الصور الشعاعية.
أدار وجهه ناحيتي مبتسماً وقال:
ممتاز يا كنعان .. صحتك عال العال.
الحمد لله، ما في عندك أي شيء عضوي.
....
قلت في نفسي:
"وهل أتيت بشيء جديد من عندك يا فهيم،
لا أدري لِمَ كبَّدتني كل هذه المصاريف الباهظة،
لتصل الى ما وصل اليه من سبقوك".
....
جلست أستمع الى الطبيب.
سأكون صريحاً معك يا كنعان،
أنت تعاني نفسياً، مرضك نفسيُّ بحت.
وينعكس على أعضاء جسدك بالآلام.
أنت تعاني من مرض "الشيزوفرينيا "
يعني "الفصام العقلي".
هذا ما يشتت قواك، ويضعف مقاومتك،
يثبط عزائمك، ويبدد طاقاتك.
...
سأشرح لك مراحل تطور مرضك.
قلت لي أن معاناتك بدأت في حزيران 2006
صحيح يا دكتور.
هنا نستبعد الأسباب الوراثية للمرض.
لأنك لم تكن تعاني قبل هذا التاريخ.
لأن هذا المرض إن كان وراثياً،
ستبدأ أعراضه بالظهور في مرحلة المراهقة.
إنها أسباب عرضية لحالة سياسية طارئة،
عشتها بكل آلامها وأوجاعها.
...
هنا كانت البداية في حزيران 2006 بما يُسمّى:
"الشيزوفرينيا السياسية".
انفصم عقلك السياسي الى فكرين سياسيين متعاكسين.
دخلت في صراع داخلي مع ذاتك،
بين فكر يقترب من الواقع ولا يلامسه،
وفكر يقترب من الخيال ولا يحققه،
وما أبعد واقعنا المرير عن خيالنا الجميل.
ولن نردم الهوة الواسعة بينهما،
إلاّ برؤية واحدة وبرنامج واحد،
من أجل تحقيق هدف مشترك لنا جميعاً.
رؤيةٌ مبنية على العلم والعمل وصدق النوايا.
والموازنة الدقيقة بين الواقع والخيال.
وتفضيل المصلحة العامة على الخاصة.
بهذا نقترب خطوات من التطلعات.
بمراحل متدرجة،
لتتناسب مع معطياتنا وإمكانياتنا.
لنحافظ على وجودنا واستمراريتنا.
وإن دخلنا مع الخصم في مواجهة غير متكافئة،
لتحقيق كل ما في أحلامنا مرة واحدة،
سنحكم على أنفسنا بالفشل أو الإنتحار.
...
لم تعترف يا كنعان بحالتك المتناقضة،
عالجتها بالشعوذة والوهم والمعاندة والمكابرة،
ولم تدرِ أنك كنت تعاند نفسك.
لم تفكر في علاجها السريري العلمي،
عند طبيب مختص بهذا المرض.
أضعت وقتاً طويلاً قبل إنتهاج الطريق السليم للعلاج.
طالت الحالة معك فاستفحلت وتمكنت.
إنعكس تأثيرها على كل جوانب حياتك،
الإجتماعية منها والإقتصادية والأخلاقية... الخ.
وتحولت الى شيزوفرينيا عامة متشعبة.
...
حتى السياسة يا دكتور فيها أمراض؟
نعم، معظم الأمراض النفسية يا كنعان،
تنشط في الظروف السياسية السيئة.
ويزداد نشاطها حدةً،
مع تلازم الظروف الإقتصادية الصعبة لها.
وهذا ما حدث معك.
...
سألته: هل هنالك علاج لهذا المرض؟
بالتأكيد ... ولكنه سيأخذ وقتاً طويلاً،
لأن حالتك تقترب من الإستعصاء.
يحتاج الأمر الى المثابرة والصبر،
قوة الإرادة، مصارحة النفس، الإعتراف بالخطأ،
الإيثار بتنحية المصلحة الخاصة لصالح العامة،
التمسك بالأمل والعمل وعدم اليأس.
الإيمان الراسخ بالحق والمطالبة به،
العمل المنهجي المتجرد من كل شائبة.
الموازنة بين الواقع المر والخيال الحلو،
بين الممكن اليسير والأمنيات المتعاظمة.
ويحتاج كذلك إلى مساعدة المريض للطبيب،
في الإمتثال لبرنامجه العلاجي الممنهج.
...
قل لي يا دكتور: ما العلاج؟
العلاج يسير على خطين متوازين.
علاج (سيكلوجي) نفسي وهو المهم،
وعلاج كيميائي يساعد في تخفيف الأعراض.
سأكتب لك اليوم العلاج الكيميائي،
ليساعدك على النوم والتقاط الأنفاس،
سيفتح شهيتك على الطعام.
ويحسن مزاجك بإذن الله.
احجز موعداً للمراجعة بعد أسبوعين،
بعدها سينعكس مفعول الدواء ايجاباً على نفسيتك،
مما سيساعدنا في نجاح العلاج السيكولوجي.
...
الأدوية التي سأكتبها لك غالية جداً.
لا تتعب نفسك في البحث عنها في الصيدليات.
ولن تجدها الاّ في صيدلية .... في الشارع المقابل.
هي وحدها من تجلب هذه الأدوية.
قلت في نفسي " الآن فهمتك يا دكتور،
تلك هي لعبة الصيادلة. لكنني مُكرهٌ أخاك لا بطل،
أكيد ... إن لك عمولة على هذه الأدوية.
لن أحقق لك رغبتك، ولن أشبع جشعك".
تناولت الوصفة وبها ثلاثة أدوية.
حجزت موعداً جديداً لجلسات العلاج السيكلوجي.
إلى اللقاء في الجلسة الثالثة.


بقلم أحمد ابراهيم الحاج
1/1/2014 م