نستحق في غـزة .....رصاصة الرحمة !

بقلم: عبد الحليم أبوحجاج

عشنا زمناً لاجئين في بلاد الغربة ، وكان قطاع غزة أحد بلاد غربتنا الجغرافية والنفسية ؛ ما دمنا نعيش فيه بصفة مؤقتة ، يحمل كل منا بطاقة لاجئ فلسطيني ، ينتظر يوم العودة ، ولما طال عـليه الزمان أخـذ ينتظر دورة تـوزيع التموين ، يتلقى الطعام والسكن في الخيام ، وتتناوب عليه الأوجاع والأسقام . وانتفض اللاجئون ، وصنعوا لأنفسهم ثورة مسلحة ضد الاحتلال ، شاركت فـيها جميع شرائح المجتمع الفلسطيني : السياسية والاجتماعـية . وبعد مرورسـنوات القحط ، وبعد مرور قوافل الشهداء وآلاف الجرحى والأسرى – اعترف العالم على استحياء منه بحق هذا الشعب في الوجود والتمتع بالحياة الآدمية الحرة ، وفي إقامة كيان سياسي له مُمَثَّـلا في منظمة التحرير الفلسطينية التي تسعى جاهدة بنضالها وكفاحها المسلح أن تقهر الواقع السياسي الدولي وتتمرد عليه ...وكانت اتفاقية أوسلو – ليتها ما كانت ! – تلك التي صفَّقنا لها وهللنا وطبلنا وزمرنا ، ومن غـباء أحلامنا أخـذتنا الفرحة إلى عـرس وطني كبير ، ورمينا جنود الاحتلال الإسرائيلي بالورود والرياحين ، ورشقناهم بكلمات الحب والسلام ، ونسينا أو تناسينا أن هذا الجيش هو نفسه الذي رمانا بأسلحته النارية وأشعل النار في أرضنا وسمائنا وبحرنا بكل ما لديه من أحقاد وكراهية ، وكان الشعب وقود هذه النار ، بل وقود نار الغضب . وقالوا لنا وصدقناهم يوم أن كانت عقولنا في أحذيتنا ، أن غـزة فقيرة الدخل والموارد ، كالحة الوجه ، دامعة العينين ، دامية القلب والكفين – قالوا إنها ستتحوَّل إلى جنة وستنقلب إلى الثراء ، وإنها ستضاهي أغنى البلاد بفضل الدعم الدولي بزعامة العم سام ، وستكون سنغافورة الشرق الأوسط ! . ولأننا مغفلون ، وربما لأننا محرومون من أدنى مباهج الحياة ، وتوَّاقون للاستقرار ، صدقنا هذا القول ، وتبين لنا أننا كنا نحلم " وحلـم الجـوعان عيش " كما يقول المثل . وجاءت السلطة الفلسطنية إلى غزة – أريحا أولا ، تحمل معها رجالات م .ت . ف الذين أرهقوا الإسرائيليين عُسْرا ، وأرهبوا الدول الأجنبية حليفة إسرائيل ، وأزعجوا بعض العرب الذين يلتحفون بالعباءة الأمريكية ، ثم لحق بهم القائد الشهيد أبو عمَّار، وليتهم ما جاءوا ! لكان أشرف لهم من الواقع الحالي الذي يتصف بالمهانة والذل داخل السجن الكبير الذي نسميه نحن (الوطن الفلسطيني)، ويطلق عليه الإسرائيليون (غزة ويهودا والسامرة ) . وهكذا انصفق فخ الخديعة واُحكم إغلاقه ، وسُجنت الثورة الفلسطينية باسم الحكم الذاتي الكَذِب ، وهي مؤامرة إسرائيلية أمريكية أوروبية بتأييد ومساعدة بعض العرب المستعربين ، وانحبس الشهيد القائد أبو عمَّار في المقاطعة برام الله ، وطال حصاره فيها وبيده سلاحه كالأسد في عرينه . وخرج للاستشفاء ، وعاد محمولاً على الأعناق ، تحفه ملائكة الرحمة . وانطفأت الثورة واستراح المحارب واسترخى يمدُّ رجليه ، يقيم في القصور المفروشة بالسندس والإستبرق يلبس الحلي والحُلل ، وينام على السرر الوثيرة ، ويجلس على الأرائك المغطاة بالحرير، ناعم الكفين والخدَّيْن ، يخاف على نفسه من ملاعـبة مسدس بلاستـيـك . وقد ثقُل عليه رأسه ، وانتفخ كرشه ، وامتلأت جيوبه ، ولم يشبع ولم يقنع ، وكلما هبش ما تصل إليه يده يبحث عن هبشة أخرى ويقول هل من مزيد !.


وحصل الانقسام الفلسطيني بما أقدمت عليه حماس من انقلاب عسكري بغيض في عهد الرئيس محمود باشا الطيار الذي لا يملُّ ركوب الطائرات ، يجوب بها الآفاق جوالاً في بلاد الله ، تراه يُمسي في بلد ويصبح في بلد غيره ، وهكذا دواليك ! لا يقطع رحلاته زلزال أو فيضان ، ولا يستقدمه عدوان ، وولَّى أعقاب الرجال فراراً إلى رام الله ، وتركونا كاظمين الغيظ . وأُقيمت سلطتان بالإكراه ، وعلى غير إرادة من غالبية الشعب ، فترسَّمت الحدود بين دويلتيـْن إحداهما في الضفة والأخرى في القطاع ، وكل منهما لها رئيس وعلم ونشيد وبرلمان وحكومة وأزلام وأصنام وجوازات سفر ومؤسسات تنتفي عنها الشرعية ، وتفتقر في وجودها إلى الدستورية ، وتخالف القوانين السماوية والوضعية ، وكل منهما مازالت تحت الاحتلال . وترهلت الثورة الفلسطينية ، وتراجعت إنجازاتها ومكتسباتها التي دفع الشعب الفلسطيني ثمنها مُقدَّماً آلاف الشهداء وآلاف الجرحى وآلاف الأسرى ، هـذا عـدا عشرات الآلاف من الأرامل والثكالى والأيتام . وأخذت المفاوضات - برعاية أمريكا ومباركة بعض العرب المستعربة - تنحى منحى آخر، إذ اتسمت بالضحك على ذقن كبير المفاوضين بوعود كاذبة كسباً للوقت لصالح إسرائيل التي تسعى لفرض الأمر الواقع من خلال التوسع الاستيطاني والتهام أكبر قـدْر من الأرض الفلسطينية ، ونحن عن نواياها لغافلون أو مُستغفَـلُـون . بل يتمادى كبير المفاوضين قي إيلامنا عندما يخرج بين الحين والآخر بتصريحه عن التزامه بالاستمرار في المفاوضات ومدِّ زمانها ، وهو يعلم والسيد الرئيس يعلم أننا لن نحصل على شيء من المفاوضات ، وأن إسرائيل ستحصل على ما تريد بالمفاوضات وبدون مفاوضات ، ما دمنا على ضعفنا وهواننا على الناس ، وإنه لأفضل لنا وأشرف أن نقاطع المفاوضات العبثية ونمتنع عن الجلوس مع الإسرائيليين من أن نستمر فيها ، لأننا بذلك نوحي للعالم أن إسرائيل تسعى إلى السلام ، جادة فيه ، وهي ليست كذلك .


ومرت بعد الانقلاب سبع سنين عِجاف ، اشتد فيها الحصار السياسي والاقتصادي على قطاع غزة ، وضاقت على أهله الدنيا ، وتصعَّبت عليه سبل العيش ، وأُقفلت في وجهه المنافـذ ، وسُدت أمامه الطرق ، فاستوطنته البطالة واشتعلت فيه الأسعار، وزاد الاستغلال وحلت المجاعة ، وتفشت الأمراض العضوية والنفسية والاجتماعية ، ونخرت المحسوبية والوساطة الحزبية عظم المجتمع ، وسادت القبلية السياسية وطغت في البلاد وأكلت حقوق العباد ، وتراجع التعليم ثم تدنى ثم تدهور بغياب المعلمين ذوي المؤهلات العالية والخبرة العملية بسبب الاستنكاف . واهترأت المستشفيات إذ تفتقر إلى الأطباء المتخصصين المتابعين لكل تطور علمي جديد ، الزاهدين المتعففين القانعين غير المستغلين . وغابت عن سماء القطاع النجوم والأقمار، وحلت محلها خيمة الظلم والظلام بانقطاع الكهرباء التي تصلنا أربع ساعات وفي أحسن الأحوال ست ساعات في الأربع والعشرين ساعة ، فهي إما أن تأتي ونحن نائمون فلا نستفيد منها ، أو تأتي بإضاءة ضعيفة جداً لا تحرك غسالة ولا ثلاجة ولا مكوى ولا تُشغِّل تليفزيون . وفي غياب الغاز والكاز والبنزين توقَّفت حركة السيارات ، ورجعنا مئة سنة إلى الوراء نطهو الطعام على نار الحطب ، ونضيء بيوتنا بلمبات الكاز – إن وُجد الكاز – أو بالشموع رغم أخطارها ، حتى يتمكن طلابنا من مطالعة دروسهم .


أما عن التوظيف فهو موقوف رغم عشرات الآلاف من خريجي المعاهد والجامعات في مختلف التخصصات ، ومازالت ماكينات الجامعات تدور وبطونها تتقيَّأ ، ولا يتم توظيف أحد إلا مَن كان صاحب حظ وحظوة عند وزير أو نائب برلماني أو مَن كان ذا مكانة عالية ، حينها يتم تعيينه وكيل وزارة أو زرعه مديراً عاماً في وزارة من لا شيء بجرة قلم من السيد الرئيس أومن وزيره النبيل الأمين ، وطز في الوطن والمواطنين وطز في المبادئ وطز في باقي الخريجين والذين هم الأكفأ والأحوج ... ويا ويلهم من الله !!. وعندما تشتد الحاجة بهؤلاء الشباب الخريجين إلى العمل يُهرعون إلى الجمعيات المدنية ينتظرون أن تواتيهم فرصة العمل على نظام البطالة شهراً أو شهرين يحملون المكانس يجوبون بها الشوارع والأسواق والميادين العامة ، فتهترئ شهاداتهم الجامعية المطوية في جيوب بناطيلهم الخلفية . ويظل هاجس الهجرة يلح عليهم للانعتاق والانطلاق والتحرر ، ولمفارقة الفقر والمرض ، والتخلص من كوابيس السلطة ومنغصات الانقسام الحزبي البغيض ، والرحيل عن بلد يشعرون فيه بمرارة الغربة ، ولا يحقق لهم أدنى قوامات الحياة ، إلى بلد يسكنون إليه ويسكن فيهم . ولا تقتصر الرغبة في الهجرة على الشباب الذكور فقط بل يتعداهم إلى الفتيات اللاتي يحلمن بالعريس المغترب . ولإن سألت الشيـوخ أجابوا بحسرة : (ليت الشباب يعود يوماً !) . فكلهم ينشد الانعتاق والتحرر والاستقرار، والبعد عن المنغصات وجرعات النكد اليومية . فهل فكَّر السيد الرئيس في هؤلاء الشباب الذين يتزايدون كل عام ؟ وهل فكَّر كيف لهم أن يبنوا مستقبلهم إلا بتوفير فرص عمل لهم ؟ هل حاول أن يفتح أمامهم أبواب العمل في بعض البلاد العربية الثرية التي تربطه بهم أواصر الود والعلاقات الطيبة ، كما كانت تفعل منظمة التحرير في عهد القائد الراحل الشهيد أبي عمَّار ؟ أم أن هذا الأمر ليس من اختصاصه ، فهو فقط رئيس سلطة وليس أمير المؤمنين ! .


أما الموظفون في قطاع غزة التابعون إلى رام الله فكان الله في عونهم ، فهم في قلق دائم وفي اضطراب مستمر، وهم في كل شهر يتقدمون لامتحان عسير حين يقفون أمام الصراف لقبض الراتب ، وعند الامتحان يُكرَم المرء أو يُهان ، فيخرج من البنك مَن يضحك ، ولكنه يفكر قلِقاً فيما يمكن أن يحدث في الشهر القادم ، ومنهم مَن يخرج عابساً مقطِّباً لا يعرف سبباً لما حدث . ولقد انتاب كثير من الموظفين الذعر من القرار الذي أصدرته حكومة الحمد الله بسلامته الشهر الماضي بقطع العلاوة الإشرافية وبدل المواصلات عنهم بحجة أنهم قاعدون في بيوتهم لا يداومون . فنحن نقول كما قال الأولون : إن أول الرقص حجَلان .وهي خطوة تثير الفزع ، يُخشى أن تلحقها خطوات مدمرة للأسرة الفلسطينية بغزة . ولكي يكون السيد الحمد الله منصفاً ، عليه أن يسأل السيد الرئيس مَن الذي أمر هؤلاء الموظفين بالاستنكاف عن العمل ولزوم بيوتهم ؟ أليس هو السيد الرئيس الذي طلب منهم ذلك بالأمرلإجهاض حكومة حماس وشل قدرتها عن تسيير الحياة وعرقلة إدارتها للمؤسسات والمرافق العامة ، وكأن القطاع مقاطعة للبارونات الحمساوية ، فاستجابوا لأمر رئيسهم ولم يخذلوه ، ولكنه خذلهم وأحزنهم وأجرى الدمع في عيونهم لضيق العيش الذي هم فيه ، وجاء هذا القرار ليزيد من معاناتهم وهمومهم . فهل هذا جزاؤهم ؟! . أم هي خطوة إجرائية يعقبها خطوات وصولا إلى ( فك الارتباط القانوني والإداري عن قطاع غزة ) ؟! . نحن لسنا مع حماس في انقلابها ، ولكننا نطالب السيد الحمد الله أن يتفهـم الحقيقة الغائبة المغـيَّـبة وهي أن السـيد الرئيس هـو المُلام ولـيس الموظفون ، لأنه صاحب القـرار ، ونتمنى على السـيد رئـيس الوزراء أن يكـون نصيراً للضعـفاء ، عـادلاً في قـراراته ، لا أن يكون عليهم ، ولا أن يترسَّم خطى الخطَّائين الذين سبقوه ، بل يتفحَّص كل قرار يُحال إليه من السيد الرئيس . ومن رأينا أن الذي يستحق العقوبة هو السيد الكبير ؛ رب الأسرة الفلسطينية . لآننا في مجموعنا ندفع أثمان هذا القرار الخاطئ من حياتنا اليومية كل يوم وليلة ، ندفعه من تعليمنا ، من صحتنا من علاقاتنا الأسرية والاجتماعية المتنوعة . ويكفي الموظفون الشباب بؤساً أنهم أُبعدوا عن مواقع العمل وهم في سنوات العطاء ، فذهب عنهم النشاط ، وجفت لديهم منابع الفكر وتكرشوا وثقلت موازينهم إلى الأرض ، وإن كثيراً منهم لنادمون.


أما عن فتح فلا تسأل : ما لها ؟ إنها يومئذ تُحدِّث أخبارها ، وتكشف عن أسرارها أن التشرذم قد أصابها ، وأن الأعطاب قد ضربت أطنابها ، فردَّتها إلى أعقابها ، فويل لمن يرى أوزارها ويسكت عن حالها ولا يُصلح بالها . وإننا لا ننسى أن كانت فتح رائدة الثورة وزعيمة الثوار وقدوة الأحرار بقيادة الشهيد أبي عمَّار ، واليوم تبدلت أحوالها من سيئ إلى أسوأ ، ( والفَرس من خيَّالها !) .


وباختصار ، ليس في هذا البلد ما يستحق التمسك به ، وليس فيه ما يؤسف عليه . فماذا ننتظر والحياة في قطاع غزة كئيبة ، ملأى بعذابات يومية ، أولها صورة الحصار الخانق بسد المعابر والمنافذ في وجه مَن أراد السفر ، فقد تحوَّل القطاع إلى سجن كبير مفاتحه في يد عدونا ، يتلوها صُوَر مجسَّمة للقهر والظلم والظلام والفقر وتفشي البطالة واستشراء المحسوبية والوساطة ، وتدني مستوى التعليم في مدارسنا ومعاهدنا وجامعاتنا ، وتخلف مستشفياتنا وخلوها من المعدات الطبية الحديثة وعدم جاهزية أطبائنا وممرضينا لاستيعاب التطور العلمي ومتابعة كل جديد ، فأصبح القطاع بحق أرض الكوابيس يتجمع فيه مليون ونصف المليون فلسطيني تقريباً ، من بينهم أكثر من مليون يموتون بالبطيء ، ترهقهم أوجاعهم العضوية والنفسية والفكرية ، تراهم رُكَّعاً سُـجَّداً ينتظرون رصاصة الرحمة ، لعلهم يجدون في الموت ما يفتقـرون إليه في دنياهم من راحة واستقـرار وطمأنينة ، فهنيئاً للموت أن صار دواء شافياُ يحقق الطمأنينة والأمن والأمان ، وطوبى للموت أن صار أمنية يتمناها المعذبون في الأرض !.**