في ذكرى رحيلك السادسة أيها الرفيق الأجل، يختلط الحبال بالنابل،ويتولد لدي شعور بأن رحيلك المبكر أغناك عن رؤية ما وصلنا إليه،مرحلة ما بعد الزمن الرديء والحراشي،وما بعد مرحلة الإستنقاع-أي الإنهيار الشامل-،حركة وطنية بكل الوان طيفها السياسي تنهار،وسلطتان لا تمتلكان السلطة تتنازعان وتتصارعان على الإمتيازات والمصالح والمراكز باسم الوطن،وحقوق شعبنا وثوابته الوطنية تذبح على مذبح الفئوية والأجندات الخاصة،حيث تجري عملية تصفية للحقوق والثوابت وهناك مخاطر جدية وحقيقية قد تدفع بقضيتنا للتصفية وثوابتنا للتبديد والضياع،إنها مرحلة يصعب علي توصيفها لك بمفردات السياسة أو المنطق الجدلي الماركسي او حتى الهيجلي،فالحالة خارج التوصيف العادي أو ما قرأناه وتعلمناه في الكتب والأدبيات والكراريس،السلطة والمعارضة متماهيتان،تضيع الفواصل والتخوم بينهما،فلا فرق سوى باللغة والشعار،لا تعرف هذا القائد أهو يمين أم يسار،وفي أحسن الأحوال المعارضة الرافضة نصف ملوطة،ومن تحمل راية المقاومة منها تحملها كشعار بفعل مؤجل،او تمارسه بخفوت وخجل وعلى إستحياء.
انا أشد ما يؤلمني وأكثر ما يحزنني ولا اعرف أحياناً تختلط لدي المشاعر،وأقول لربما مغادرتك المبكرة، كانت فيها راحة لك من كل ما آلت إليه المرحلة من قرف وإسفاف وإبتذال،أنك لا تستطيع ان تكون شاهدا على العصر،وحتى لو كنت حياً في هذا الزمان فشهادة الثوريين مشكوك ومطعون فيها،ويا رفيق القيد والدرب حتى لو أن الشهداء سيعودون،وعلى رأي الراحل الروائي الكبير الطاهر وطار،فهناك من سيمنعون عودتهم بالقوة،فالثورة لم تعد هي الثورة ولا هي كذلك الأحزاب والفصائل،الان المتسلقون ومدعي البطولات كثر،ولكن لا بأس فأنت غادرت في عنفوان مجدك وقمة عطاءك.
أعرف بأنك رحلت بلا عودة، فالموت لا نستطيع التمرد عليه،كما هو القيد او السجن والسجان،فكم مرة تمردنا على ذلك،وكم مرة قهرنا السجن وقتلنا الوقت بالضحك؟؟،وكم مرة إستفزينا رفيقنا ناصر القابع الان في سجن النقب الصحراوي،والذي هو رجل في زمن تعز فيه الرجال؟؟؟،وكم مرة جلسنا نسمع منه عن ما تعرض له من مواقف وطرائف ومغامرات اثناء رحلته للعلاج في الخارج؟؟،وعندما كان يحين دورنا،كنا نقول له الوقت تأخر،ونحن ليس لدينا مغامرات مثلك....وهكذا دواليك،،ومن ثم أقف انا في وسط الغرفة وبصوت جهوري أقول لكما نكون او لا نكون ولأنهي الجملة بالقول "نا كون ....نا كون..نا كون "،حيث أن ما يسمى بمحكمة العدل العليا (45) يوماً بالتمام والكمال،لم ترد على إستئنافنا بالإفراج عنا،وليأتي القرار في اكثر من(20) صفحة بأن هؤلاء من يستغلون العمل الإغاثي والإجتماعي لزرع "الإرهاب" في عقول الأطفال وصغار السن،ويريدون زعزعة أركان الدولة،ولم يكتفوا بذلك،بل إنتدبت "الشاباك،باحث سمته مختص ب"الإرهاب" ليقدم شهادة ضدنا،في إطار الحرب علينا ومحاولة تهويل وتضخيم القضية،ومنع إطلاق سراحنا،وكنت تقول لن ينالوا من عزائمنا،ولن يستطيعوا مهما لفقوا من حجج وذرائع وتهم،أن ينالوا منا.
وكم مرة في أثناء اعتقالنا الأخير في عام 2005،كنت تحرص على ان نحضر معنا الكتب والأقلام للرفاق في السجون الأخرى،ولا تنسى ان نحضر الشكولاتة والبسكويت للأشبال والرفاق الصغار الذاهبين معنا للمحاكم،والذي هم جزء كبير منهم تجربته الإعتقالية الأولى،حيث كنا نشد من عضدهم وازرهم.
طالت "حبستنا" في المسكوبية،ووضعونا كنوع من الإنتقام في غرف المدنيين،وفي تلك الغرف لا توجد حياة منظمة،ويعيشون كما هو السمك الكبير يأكل الصغير،وكانت تبدو على تعابير وجهك علامات الإستغراب،عندما كنت احدثك بقضاياهم،فمنهم سارق السيارات ومنهم تاجر المخدرات ومنهم من رفعت عليه زوجته قضية لضربها،ومنهم من هو لوطي او مزور،او معتقل على ما يسمى بالدخول غير الشرعي للقدس وفلسطين الداخل،كنت تقول لي،هل هؤلاء من القدس؟؟؟،وكنت أقول لك نعم،وأبعد من ذلك،حيث تمارس الرذيلة والفاحشة وتعاطي المخدرات في المقابر،وهناك من يسرقون القبور ويبيعونها،وهناك من يوسعون محلاتهم التجارية على حساب القبور،فيزداد إستغرابك وإستهجانك.
كنا نكون عشرة بالغرفة وفي الصباح عشرين،لا نجد مكاناً للنوم،كنا نعتقد بأن الأمور ستصبح منظمة،حيث كنا نضع ما نجلبه من"كنتينا" من الخارج تحت تصرف الغرفة،ولكن سرعان ما إكتشفنا بأننا نجدف عكس التيار،وبان الوقت ليس وقت مكارنكو،فالوضع متغير بإستمرار ولا ثبات فيه،ولا إمكانية للتنظيم والضبط،فالمسكوبية هي محطة توزيع للسجون.
اليوم يا رفيقي أنت ذهبت برحلتك السرمدية الأبدية،وتفرق شملنا،لم يعد يجمعنا لا قيد ولا رحلة مشتركة في"البوسطة" أو المحاكم الطويلة والمتقاربة،والتي هي نوع من العقاب،فأنا طحنتني الحياة والهموم،وتشغلني كثيراً هموم القدس والوطن،فالقدس التي خرجت لوداعك عن بكرة أبيها وبكتك يوم رحيلك، الآن تتعرض للذبح من الوريد للوريد،ولا احد يلتفت إليها لا سلطة ولا احزاب ولا فصائل ولا عرب ولا مسلمين،حيث تستباح شوارعها وحواريها وأزقتها وأقصاها يومياً من قبل زعران المستوطنيين، يعربدون ويمارسون شذوذهم وطقوسهم التلمودية وأساطريهم، وكذلك "غول" الإستيطان "المتوحش" لم يترك لنا أي أرض للبناء عليها،وكذلك التعليم يؤسرل والشوارع تعبرن والتراث يسرق والتاريخ يزور والإنتماء يشوه.....اما المشروع الوطني فقد أضحى مزرعة للبعض ومشروعاً إستثمارياً....واما من إنتميت إليه ونضالت عبره وخلاله من أجل الوطن والحرية والعدل والمساواة..الخ،فأنا لست بمطلع وبعارف ولكن الحال،ليس بأحسن من حال بقية مكونات ومركبات العمل الوطني والإسلامي،حيث شمولية ازمة المشروع الوطني.
أبا وسام الرفيق المعطاء والمميز،أنا احسدك صدقاً الان،ليس فقط لأنك رحلت جسداً وذكراك وتعاليمك وأفكارك وقيمك ومبادئك خالدة وحية بين رفاقك وأبناء شعبك ومحبيك،بل لأنك الان ترقد في سلام،وأظنك لو أمد الله في عمرك،لربما لم يحتمل صدرك ولا قلبك،ما وصل إليه الحال لا على المستوى الفصائلي والحزبي،ولا على المستوى الشعبي،ولا ممارسات وأفعال السلطة القائمة،فلربما مت غيظاً أو قلت هذه مرحلة وسخة،وأنا سأحافظ على طُهري ونقاوتي بعيداً عن كل ما هو قائم.
أبا وسام الكثيرون في هذه المرحلة فقدوا البوصلة والإتجاه،والكثيرون يعتقدون بان هذا زمن المغانم لا المغارم،والمؤامرة كبيرة على كل شيء وتطال الجميع،فالمشروع الوطني والثوابت،كيري يريد ان يجهز عليها،في أسوء لحظات الضعف الفلسطيني والعربي.
وفي ذكراك السادسة لا يسعني إلا القول،بأنه مهما كانت المرحلة سوداوية والطريق صعب وشاق،ولكن انا على ثقة،بأن فلسطين لن تكون عاقراً،فهذا الشعب مضحي ومعطاء،ولكن تعوزه قيادة بحجم تضحياته سلطة واحزاب.