الجزء السابع من كنعان في عيادة الطب النفسي
.......................................................
خرجت من العيادة مستغرباً مُستهجناً ما سمعت،
أتمتم وأتحدث مع نفسي،
أحاديثاً متقاطعة تارة،
ومتعاكسة تارة أخرى،
أتأرجح بين الواقع والخيال،
وبين الحقائق والضلالات والأحجيات.
تتلاطم في خاطري الأفكار والمعتقدات،
وتجول في نفسي الذكريات السالفات.
...
أثناء عودتي للبيت،
وجدتني أدعو الله أن يوفق إبني سليم،
المقاول الصغيرالذي يساعدني في تحمل أعباء الحياة.
يدفع عني أجرة البيت.
يُساهم في أقساط المدارس والجامعات.
تخرج من الجامعة مهندساً كهربائياً بدرجة إمتياز.
بحث عن عملٍ يناسب تخصصه
في القطاعين العام والخاص،في الداخل والخارج.
لا حياة لمن تنادي.
لم يقبل الجلوس في البيت.
لم يطلب مني قرشاً واحداً بعد تخرجه.
كان يخرج منذ الصباح الباكر باحثاً عن عمل.
إشتغل عامل بناء مع جارنا المقاول.
حمل الباطون على كتفيه.
تعرف على مقاول في أعمال الكهرباء.
عمل معه كهربائياً بأجرة زهيدة.
كانت تكفيه مصاريفه الشخصية.
كان يعمل بيديه في التمديدات الكهربائية.
توسعت دائرة معارفه.
جلب الإنتباه بإتقانه لعمله.
بجده واجتهاده وطموحه.
لم ييأس ولم يقعد، حفر بالصخر.
أصبح اليوم مقاولاً كهربائياً صغيراً،
ينتظره مستقبلٌ مُشرق.
"الله يعطيك العافية يا سليم ويزيدك".
...
الله يهديك يا إبني العبد.
سيتزوج سليم الأصغر منك،
وأنت جالس في البيت تنتظر الرزق،
ليهبط عليك من السماء.
تنام نهاراً وتسهر ليلاً.
تُلقي باللائمة على غيرك.
دون أن تنوي وتسعى وتكد.
"إنما الأعمال بالنيات،وإنما لكل امريءٍ ما نوى"
طال انتظارك للوظيفة يا عبدالرحمن.
كثرت مصاريفك مع التدخين والجوال.
"نائمٌ على حِسّ الطاحونة".
على أمل اتصال من ديوان الموظفين.
"موت يا حمار ليجيك العليق"
....
وصلت البيت،
بادرتني أم العبد بالسؤال عن حالي.
أجبتها بإيجاز .. لم تُعقب... غريب!
من عادتها دائماً ألاّ تقتنع بالموجز المختصر.
تصر وتلح دوماً على سرد كل التفاصيل.
كان ينبعث من محياها شعاعٌ رفيعٌ من الأمل،
تزفه إبتسامةٌ باهتةٌ مشوبةٌ بالحزن والأسى.
"كان حالُ عبدالرحمن منغصاً لكل فرحةٍ بالبيت".
كيف لا وهو وليّ العهد.
بادرتها بالسؤال كوسيلة هجومية للدفاع،
لكي أتغدى بها قبل أن تتعشى بي.
وأكف عن نفسي سيلاً لا ينقطع من الأسئلة.
كيف..؟ متى..؟ أين...؟ لماذا..؟ من..؟ هل...؟ ..الخ.
…..
هاتِ ما في الجراب يا أم العبد.
أقرأ في عينك كلاماً، وفي رأسك موالاً.
سليم يا أبو العبد.
خير ... ما به؟
قالت بصوتٍ خافت:
طلب الزواج، ... صمتت تبلع ريقها واستطردت،
يريدني أن أستأذن له من أخيه عبدالرحمن.
قلت: على بركة الله.
الأمر ليس بحاجة لإستئذان.
من جد وجد ومن زرع حصد.
لعله يكون درساً وحافزاً لأخيه.
...
يا حسرتي عليك يا عبد الرحمن.
لا تقولي هكذا يا أم العبد.
ما قصرنا مع عبد الرحمن.
هو بالغ عاقل، فليتحمل مسئولية نفسه.
وكما قال المثل:"كل شاه مُعلقة بعرقوبها".
بيتنا بحاجة الى فرحة وتجديد،
لنخرج من هذا الوضع المتجمد.
كم أنا مشتاق لمداعبة الصغار.
لعل هذا يخفف عني أعباء الحياة.
كم أنا تواقٌ للسامر وأغاني الدلعونا والدبكة.
صدقيني لا يروق لي فن هذه الأيام أبداً.
وكلما أسمع أغانينا التراثية في الأعراس،
تعتريني نشوة عارمة،
كأنها بلسم يُعانق الجراح، بلمسات حانية من الشفاء.
لن تتوقف الحياة يا أم العبد.
لن نتوقف نحن متذريعين بأسباب واهية.
إن توقفنا ستصدمنا ردة الفعل المعاكسة الصادمة،
ونحن نمتطي قطار الحياة السريع.
....
الموضوع مستوٍي وجاهز يا ابو العبد.
لقد أراحنا من البحث عن بنت الحلال.
إنه تعرف على فتاة تعمل بالمكتب الهندسي.
تفاهم معها على كل شيء.
اتفقا على التقدم لطلب يدها.
إذن توكلي على الله،
رتبي الأمر مع أهل البنت لزيارتهم.
....
سبحان الله!
كل شيءٍ يمضي سهلاً ويسيراً لإبننا سليم.
أموره سالكة بدون تعقيد.
أتذكري يا أم العبد يوم أن حملت به
دون إرادة وتخطيط منا، وبمشيئة من الله.
يومها كان الخبر ثقيلاً علينا.
أتذكري يوم أن حاولت إنزاله ولم تفلحي؟
أتذكر يا ابو العبد .... أتذكر ..
واستطردت: كان حمله خفيفا.
كانت ولادته يسيرة سريعة كلمح البصر.
الله يرضى عليه.
ويرضى على أولادي كلهم مثل بعض.
الله يرضى عليك ويهديك يا عبد الرحمن.
عندي أمل كبير بالله أولاً وفيك ثانياً.
والله بستدعيلك ليل نهار.
إن شاء الله الفرج قريب.
...
لدي موعد مع الطبيب يوم الأربعاء،
رتبي مع سليم لزيارة أهل البنت.
ليكن يوم الخميس أو الجمعة، حسب ما يناسبهم.
دير بالك يا ابو العبد: "لا تخلّي حد يشوفك بالعيادة".
الى اللقاء في الجلسة الرابعة