فضّل وزير الخارجية الأمريكي جون كيري استثمار عطلة عيد رأس السنة الميلادية كي يحطـّ الرحال بالمنطقة للمرة الثانية عشرة على التوالي لأجل تمرير مشروع اتفاق الإطار الذي لم يرى النور بعد،وتحدث عنه قبل نهاية العام المنصرم وصفه بأنه سيكون متوازن وعادل للجانبين وفق المقاييس الأمريكية المنحازة في كل الأحوال ، التقى خلالها رئيس حكومة اليمين العنصري في اسرائيل لعدة ساعات ثم توّج اللقاء بمؤتمر صحفي مشترك استخدمه نتنياهو مناسبة للتضليل الممنهج لم يبقِِ فيه ولم يذر بتوجيه كيل الإتهامات والتحريض من كل نوع ضد القيادة الفلسطينية "غير الراغبة بالسلام " حسب زعمه مكرّراً اسطوانة اسلافه الذين سبقوه بعدم وجود شريك فلسطينيي مذكراً بالمثل القائل "رمتني بدائها وانسلـّت" ، ويقصد هنا عدم وجود شريك فلسطيني ليس فقط على المستوى الرسمي بل الشعبي أيضاً يذعن للإملاءات والشروط الإحتلالية التي تتماهى مع الرواية الصهيونية المحبوكة في غفلةٍ من الزمن ، متجاهلاً عدوان جيش الإحتلال الوحشي الذي يمارس شتّى أنواع القتل والحصار والإعتقالات وتدنيس المقدسات وقضم الأراضي وتشجيع انفلات قطعان المستوطنين وعصابات الإرهاب المسماة "دفع الثمن "التي تنشر الكراهية عبر كتابة الشعارات العنصرية والتخريب ضد ممتلكات المواطنين الأمنين ، من جانبه تفهـّم الوزيرالأمريكي مخاوف الحيلف الإستراتيجي الأمنية المشروعة حسب قوله وأثنى بفائض المديح على القرارات الصعبة المؤلمة والشجاعة التي اتخذتها حكومة الإحتلال للوفاء بإطلاق سراح الدفعة الثالثة من الأسرى القدامى وكأن هؤلاء ليسوا مناضلين دفعوا زهرة شبابهم ثمناً من أجل حرية شعبهم الواقع تحت نيرالظلم الإستعماري البغيض ، كما كفلت لهم كافة القوانين والمواثيق الدولية والإنسانية حق مقاومة الإحتلال ، إضافة إلى تنكـّر سلطات الإحتلال للإتفاقيات التي تمّ توقيعها منذ عشرون عاماً ونصّت صراحةً على إطلاق سراحهم .
كشفت تسريبات ماتيسر من خطة كيري الإطارية أن نتنياهو رفض الحديث عن العودة إلى حدود الرابع من حزيران وإخلاء منطقة الأغوار الفلسطينية المحتلة وتواجد قوات أجنبية ضامنة حتى لو كانت أمريكية الطابع لدواعٍ أمنية ، بينما دحض رئيس جهاز الموساد السابق "مائير داغان"
نظرية عدم التخلي عن منطقة الأغوار وقال إن التمسك بهذا الشرط يعود لأسباب سياسية وليست أمنية ، كما أصـرّ على الإعتراف المسبق بما يسميه "يهودية الدولة" فضلاً عن الغاء حق العودة للاجئين الفلسطينيين إلى أراضيهم وديارهم التي شـرّدوا منها واعتبارمدينة القدس بما فيها الجزء الشرقي المُحتّل عاصمة ًموحدة لإسرائيل لايمكن تقسيمها ، جاء ذلك بالتزامن مع انعقاد كتلة الليكود البرلمانية التي ينتمي إليها نتنياهو اجتماعاً لمناقشة التطورات الراهنة حيث ادعى أن الصراع الفلسطيني الإسرائيلي ليس المشكلة بل "إيران والاخوان المسلمين "هما مصدر الخطر الداهم في المنطقة ولهما الأولوية ، وجدّد تمسكه "بالمناطق" واعتبارها "جزء من الوطن" في إشارة لأراضي الضفة الفلسطينية ، وكذا فعلت مجموعة الأحزاب المتطرفة المؤتلفة معه من خلال عزمها تقديم مشروع قانون يمنع رئيس الحكومة من التفاوض حول القدس وحق عودة اللاجئين دون إذن الكنيست ، في حين أدلى وزير خارجية حكومة المستوطنين "افيغدورليبرمان" بدلوه المليء بالقاذورات العنصرية الكريهة حول ترانسفيرسكاني جديد يستهدف أصحاب الأرض الحقيقيين المتجذرّين فيها منذ الأزل ، دلالات ربما لايفهمها مهاجر قادم من مولدوفيا أحدى جمهوريات الإتحاد السوفياتي السابق عام 1978 لبلادٍ لايمت لها بأي صلةٍ كانت واستوطن أرض الغير بالقوة الغاشمة دون وجه حق .
أما الشق الثاني من زيارته المكوكية للجانب الفلسطيني فلم يقدّم وزير الخارجية جون كيري أي وثيقة مكتوبة كما روّج لها إثر زيارته السابقة بل على العكس من ذلك لازال يتحدث عن أفكارهي أقرب لبالونات الإختبار منها كخطـّة واضحة المعالم ربما تكون مقصودة خشية اصطدامها بالفشل المبكـّر نتيجة تبنّي الإدارة الأمريكية الرؤية الإسرائيلية من الناحية العملية وتجاهل الحقوق الوطنية والتاريخية للشعب الفلسطيني حتى أن بعض الأطروحات "كالإعتراف بيهودية الدولة " أضحت مطلباً أمريكياً بامتياز من بين أمورٍ تفصيليةٍ أخرى مثل بقاء الإحتلال على غور الأردن وتأجير أراضٍ لسنوات طويلة تقوم عليها مستوطنات مايعني اتساع الفجوة بين طرفي الصراع التي تحتاج إلى معجزة للتقريب بين المواقف المتناقضة ، على كل حال سمع الرجل خلاصة الموقف الفلسطيني المعلن المتمثل برفض الإعتراف بيهودية الدولة لأن ذلك يعني ببساطة شطب قضية اللاجئين والمساس بجوهر الرواية الفلسطينية التاريخية والتعدي على الحقوق الفردية للمواطنين التي لايملك أحداً حق التصرف بها ، الأمر الأخرالذي سمعه بوضوح عدم قبول جيش الإحتلال داخل حدود الدولة الفلسطينية المنشودة مع امكانية النظر بوجود طرف ثالث على الحدود والمعابر ، الإنسحاب الكامل من الأراضي المحتلة عام 1967 بما فيها القدس الشرقية عاصمة الدولة ، حل قضية اللاجئين وفق قرار 194 الصادر عن الأمم المتحدة ، إطلاق سراح جميع الأسرى والمعتقلين داخل السجون الإسرائيلية دون تمييز أو تصنيف .
غادر كيري المنطقة بعد زيارتين خاطفتين للأردن والسعودية تهدف كما يبدو تأمين الحشد العربي والإقليمي والدولي للخطـّة التي ستحتوي لاحقاً الرؤية الأمريكية للحـّل وفرضها على الفلسطينيين والإسرائيليين هذا ماسوف يتضح خلال الأسابيع القادمة التي ستشهد زيارات عديدة للقادة الأوروبيين وغيرهم للمنطقة كما سيلتقي وزراء المجموعة العربية لمبادرة السلام العربية تاركاً خلفه طاقم العمل المساعد لاستكمال الإتصالات مع مختلف الأطراف ذات العلاقة بالشأن السياسي والأمني تمهيداً لعودة الوزير خلال الأيام القليلة القادمة ، لقد أظهر وزير الخارجية الأمريكي مرة أخرى انحياز إدارته الكامل للإحتلال والإبتعاد عن ابجديات الموضوعية التي تقتضيها مهنة الوسيط ، حيث تجاهل تماما السلوك العدواني لحكومة اليمين العنصري التي سارعت بالإعلان عن تكثيف بناء الوحدات الإستيطانية الإستعمارية عشية مغادرته المنطقة مايعني استخفافها بالعملية السياسية برمتها إذ تسعى من وراء هذه المسرحية الهزلية كسب المزيد من الوقت لترسيم الإحتلال إلى الأبد مايعيد بالذاكرة إلى نظام الفصل العنصري "الأبارتهايد"وإيجاد وكيل أمني وخدماتي يؤمن لمستوطنيها القادمين من كل مكان الأمن والرخاء.
ان مكامن الخطورة القادمة تكمن بمضاعفة الضغوط العربية والدولية على الطرف الفلسطيني للقبول بالإملاءات الأمريكية الإسرائيلية قد تصل إلى حد الإبتزاز والتهديد في ظل الوضع الفلسطيني غير المستعدّ حتى الأن لمواجهة هذه المخاطر التي تقتضي حشد الطاقات وتجميع عناصرالقوة وانتهاء فصل الإنقسام باعتباره جزء لايتجزأ من مخططات الإحتلال الرامية إلى سلخ قطاع غزة عن محيطه الفلسطيني ، ان الحفاظ على المصلحة العليا للشعب الفلسطيني ومشروعه الوطني التحرري يتطلب الخروج من دائرة المناورات واجراءات مايسمى بناء الثقة أو حسن النوايا بين أبناء الصف الواحد من خلال التطبيق الفوري لاتفاق المصالحة الوطنية عدا ذلك سيبقى الدفاع عن ثوابت الشعب الفلسطيني في حالة تراجع أمام هجوم التفاوض المقابل الذي يريد انتزاع ملم يستطيع انتزاعه بالقوة الغاشمة طيلة عقود من مسيرة الكفاح الوطني ...
كاتب سياسي