من نافلة القول أن لقوى وفصائل اليسار الفلسطيني ، التي تعتبر قوى وفصائل تاريخية في ساحة العمل الوطني والنضالي الفلسطيني ، أدواراً هامة ورئيسية في المحطات المفصلية والانعطافات الوطنية السياسية والنوعية الفلسطينية ، حيث كان لها مشاركات واسعة وعظيمة على امتداد التاريخ الفلسطيني ، وإسهامات في بث الوعي ونشر الفكر الديمقراطي التنويري ، وحمل شعلة النضال والكفاح الوطني التقدمي الفلسطيني ، والمشاركة في نضال وانتفاضات شعبنا البطولية ضد الاحتلال ، ولأجل الاستقلال والحرية وبناء الدولة الوطنية المستقلة ، وفي تحقيق الكثير من الانجازات والنجاحات عبر مسيرة النضال ، وطرح المبادرات والبرامج والعمل الشعبي النضالي .
ولا شك أن حال القوى اليسارية الفلسطينية لا يختلف عن حال قوى اليسار في الوطن العربي ، فقد أصابها الضعف والترهل والانكفاء والانطفاء ، وتراجع دورها الريادي والطليعي والتعبوي ومكانتها كقوى نهوضية فاعلة في المجتمع الفلسطيني ، وانحسر مشروعها الديمقراطي المدني ، وتقلص أداؤها على كل المستويات مع انهيار منظومة الاتحاد السوفييتي السابق ، ومع بروز وصعود تشكيلات جديدة في الخريطة السياسية الفلسطينية ، وهي قوى التيار الإسلاموي ممثلة بحركتي "حماس" و"الجهاد الإسلامي" ، اللتين حظيتا بالتعاطف والانحياز الشعبي ، الأمر الذي أضعف من حضور قوى اليسار ، التي وجدت نفسها منذ العام 1990 أمام معادلة جديدة في الساحة الفلسطينية .
ويضاف للعوامل التي أدت إلى تراجع القوى اليسارية الفلسطينية حالة التشتت والتفكك بينها ، وفشلها في توحيده صفوفها وتشكيل قطب يساري شعبي فلسطيني موحد ، يشكل قارب النجاة للشعب الفلسطيني وطبقاته الفقيرة الكادحة والمسحوقة ، رغم نجاحها في قضايا وطنية عديدة وإخفاقها في أخرى.
وفي ظل ما يشهده الواقع الفلسطيني ويعصف فيه من أزمة عميقة على مختلف الأصعدة ، تتجلى بشكل واضح في حالة الانقسام والتشرذم الداخلي وفشل كل محاولات رأب الصدع وإنجاز المصالحة الوطنية ، علاوة على التحولات الإستراتيجية الكبرى في المنطقة وما يترتب عليها من تغير في موازين القوى ، وما يرافقها من حالات عنف وطائفي ومذهبي وديني . وعلى ضوء الأزمة الحقيقية التي تعيشها حركة "حماس"بعد سقوط وفشل المشروع الإسلاموي في المنطقة العربية ، وربط مصيرها بمصير حركة "الإخوان المسلمين" ، وكذلك أزمة حركة "فتح" السياسية في ظل إخفاق المفاوضات ورهانها على اوسلو والدور الأمريكي . إزاء كل ذلك ، وأمام كل التطورات والتغيرات العاصفة والتقلبات السياسية ، هناك أسئلة وتحديات سياسية واجتماعية وثقافية ونضالية كثيرة وهائلة تواجه قوى اليسار ، التي من المفروض أن تشكل قوة ثورية تنهض بأوضاع الشعب وجموع الناس في ميادين العمل والكفاح ، وقوة إنهاض وإصلاح وتصحيح لاهتزاز واختلال المفاهيم والمعادلات الفلسطينية ، وهي أسئلة تحتاج إلى أجوبة واضحة .
إن الفرصة الآن مواتية أمام القوى اليسارية والمدنية والديمقراطية الفلسطينية للخروج من حالة الركود والسبات والانكفاء نحو حالة النهوض والمبادرة والفعل ، والعمل على نقد مسيرتها وبناء نفسها وتجديد ذاتها وبلورة إستراتيجية جديدة ، وتقديم نفسها كبديل سياسي واجتماعي وثقافي ونضالي لكسر معادلة الاستقطاب وإنهاء حالة الانقسام المدمرة في الشارع الفلسطيني . وهذا كله مرهون بقدرة هذه القوى على المراجعة النقدية والقراءة الصحيحة الشاملة العميقة لمجمل التحولات السياسية في المنطقة على قضية شعبنا الوطنية التحررية ، وإنهاء ظاهرة العمل الفوقي النخبوي ، والتغلغل بين أوساط الشعب والجماهير ، وكذلك مجابهة الأسئلة التي يفرضها الواقع الفلسطيني الراهن وصولاً إلى تشكيل جبهة يسارية فلسطينية موحدة وعريضة تضم كل المؤمنين بالخيار الديمقراطي ، وتدافع عن غالبية أبناء الشعب الفلسطيني من عمال وكادحين وعاطلين عن العمل ، وتكون بديلاً سياسياً واجتماعياً وثقافياً يتجاوز خيار الإسلام السياسي الذي تمثله حركة حماس واثبت فشله في الحكم ، وخيار حركة فتح الذي تكشفت حقيقته أيضاً على الصعيد السياسي والاقتصادي والاجتماعي ، وعليها التعبير عن هويتها الفكرية الأيديولوجية بشكل واضح وبدون تأتأة .
إن تحقيق ذلك من شأنه أن يعيد لقوى اليسار الفلسطيني عافيتها ودورها ومكانتها ومجدها الغابر ، وبدون ذلك ستغرب شمسه وتزول ، وستختفي قواه عن مسرح الأحداث والتاريخ .