اليرموك وصمة عارٍ في جبين الأمة (3)

بقلم: مصطفى يوسف اللداوي

أين ذهب سكان مخيم اليرموك وأهله، الذين كانوا يسكنونه ويعمرونه، ماذا حل بهم، وماذا أصابهم، أين ذهبت حيويته وازدحام الحياة فيه، وهو الذي كان يتيه على غيره ويفخر بمن فيه، يوم أن لم يكن فيه متسعٌ لقدمٍ، ولا لمزيدٍ من السكان، وما كان فيه بيتٌ شاغر، أو آخر غير مشغولٍ، ولا شبر من الأرض لا يعلوه بنيان، أو يعمره سكان.
اليوم قد باتوا جميعاً بين جريحٍ ومقتول، ونازحٍ ومشرد، ولاجئ ومهجر، ومحاصرٍ وممنوعٍ من الدخول أو المغادرة، وجائعٍ وهزيل، وضعيفٍ ومريض، وشبحٍ وبقايا هيكل، ومعتقلٍ وهارب، ومقاتلٍ ومحارب، وحامل سلاحٍ أو خائف منه، رغم أن الباقين فيه لا يتجاوزون الآلاف، بعد أن كان يسكنه مئات الآلاف.
ما هي الجريرة التي ارتكبها سكان مخيم اليرموك حتى يصيبه ما قد أصابه، ويلحق به هذا الحجم المهول من الدمار والخراب، ويمنى أهله بمئات القتلى وآلاف الجرحى، ويشرد الباقون منهم في الأرض، هرباً ونزوحاً وهجرة ولجوءاً، ويضطر كثيرٌ منهم للمغامرة فيموتون غرقاً، أو تمزق أجسادهم نيران خفر السواحل العربية، أو يجبرون على العودة إلى مناطق الخطر.
أما كان ينبغي أن يبقى المخيم وسكانه على الحياد، فلا يقحمون في الأحداث، ولا يجبرون أن يكونوا فيها طرفاً، ولا يجرون من الطرفين إلى المعادلة السورية الداخلية، علماً أن مخيماتٍ فلسطينية أخرى، في اللاذقية ودرعا وحلب، قد سبقت مخيم اليرموك، وتم زجها بالقوة في حمأة الأحداث، بعد أن قصفت بالطائرات والدبابات، وأقيم على مداخلها حواجزٌ أمنية، ونقاطُ تفتيشٍ خاصة، ما أدى إلى اعتقال بعض الفلسطينيين، وغياب آخرين أو قتلهم، فضلاً عن الاشتباكات اليومية في المخيمات أو على أطرافها.
لا يوجدُ مكانٌ في مخيم اليرموك إلا وطاله القصف، ووصلته القذائف، وحل به الخراب، إذ إنهارت الكثير من بناياته، ودمرت منازله، وقصفت حاراته وشوارعه، واستهدفت فيه بكثرة المستشفيات والعيادات والمخابر والصيدليات، وكل ما يتعلق بالإستشفاء والعلاج، كما طال القصف أغلب المساجد، وأسقطت المآذن، وحرقت المكتبات والمصاحف، وامتد الخراب إلى المدارس والمعاهد والمخابز والأسواق وكل المحال التجارية، وضاعت معالم شوارع المخيم، وقد قصفت بيوتٌ ومحال في شوارعه العتيدة، في القدس وصفد ولوبية والنقب، وفي حطين وعين جالوت، وحيفا وعكا والجاعونة وطبريا، وفي نابلس والجليل والناصرة.
ألا يحق لنا أن نتسائل عن الجهات التي ورطت المخيمات الفلسطينية، وأقحمتها عنوةً في الأحداث، سواءً مخيم اليرموك أو غيره، دون أن يكون المخيم مبادراً أو مشاركاً، وقبل أن يتورط وينغمس، ويجر ويوجه، هل كان من العقل والمنطق قصف المخيمات بالصواريخ وقذائف الدبابات من معسكراتٍ ومنصاتٍ بعيدة، تقتل وتدمر وتخرب بصورةٍ عشوائية، وتصيب كيف تشاء دون تحديدٍ أو تصويب، وكيف يمكننا تفسير قصف مخيم اليرموك بطائرات الميغ الحربية المقاتلة، التي هزت أرض المخيم، ودمرت بيوته ومساجده، ومزقت الأجساد وبعثرت الأشلاء.
من الذي يحاصر المخيم، ويمنع إدخال المواد الغذائية والطبية لسكانه، ومن الذي يمنع أهله من الدخول إليه أو مغادرته، وهل أن حصار آلاف المدنيين في المخيم، سيجبر مجموعةً من المسلحين أو المقاتلين على إلقاء السلاح، وتسليم أنفسهم، والتوقف عن مقاتلة الجيش النظامي للدولة، وهل يجوز حصار شعبٍ إلى درجة الموت جوعاً، وتركه ينزف حتى الموت، من أجل إرغام مجموعةٍ صغيرة من المقاتلين على تسليم أنفسهم، أفلا ترون أن هذا هو العقاب الجماعي بعينه، إذ يعاقبون أبرياء بجريرة آخرين، ويقتلون أطفالاً وصغاراً ونساءً لا ذنب لهم، ولا جريمة اقترفوها سوى أنهم كانوا من سكان هذا المخيم.
ولماذا سمحت قيادة الجيش السوري الحر لعصاباتٍ من منطقة الحجر الأسود، تدعي أنها منه، وتقاتل باسمه، وتنتمي إليه، وتمول منه، وتتلقى الأوامر من قيادته، باجتياح المخيم واستباحاته، وسرقة بيوته ومتاجره، وتخريب مساكنه ومحلاته ومعامله، واطلاق النار على سكانه وأهله، والقيام بأعمال قتلٍ وخطفٍ، وحرقٍ وتدميرٍ ونسف، وكأن بينها وبين سكان المخيم ثأرٌ قديم، ومعركة لم تنتهِ، وقد آن أوانها، واستحق زمانها، فعاثوا في المخيم خراباً وفساداً، وتدميراً وحرقاً ونهباً، حيث لم يبقَ في المخيم بيتٌ إلا وسرق، ونقل متاعه وأثاثه، ونهب مخزونه ومدخراته، وبيع ما فيها من أجهزةٍ ومعدات، وما الذي استفادته المجموعات العسكرية التي تمترست في المخيم، عندما سمحت بتدميره ونهبه، وتسببت في طرد أهله وتهجير سكانه.
ولماذا سكتت القوى والتنظيمات الفلسطينية على ما يجري في المخيم، ولماذا قبل بعضها أن يكون طرفاً في الأزمة مع فريقٍ ضد آخر، فحملت السلاح وقاتلت، وأطلقت بعضها النيران من داخله، وقصفت أخرى مواقعه من خارجه، وقد كان بإمكانهم تحصين المخيم، وحماية أهله، والنأي بهم جميعاً عن الأزمة، وعدم الإنخراط في المعركة، فلا يكون المخيم مرتعاً آمناً لفريقٍ ضد آخر، وقد كان في المخيم قوىً فلسطينية قوية ومؤثرة، وصاحبة نفوذٍ ومالكة قرار، ولديها منتسبون وأتباع، وعناصرٌ ومكاتبٌ ومقرات.
لكنهما كلاهما قد أخطئا القرار، وارتكبا معصيةً كبيرة، فأما أحدهما فقد تحزب وقاتل، وحمل السلاح، وانتظم في مجموعاتٍ ضد الدولة، ومارس العنف على أشده، ونصب من نفسه حاكماً وآمراً، وقاضياً وسجاناً وجلاداً، ومنفذاً للأحكام التي يصدر ومطبقاً لها، وأما الآخر فكان سيف الدولة المسلط، وسلطانها القاهر، فقاتل إلى جانبها، وقتل باسمها، ومارس البطش والإرهاب، والتضييق والتجويع والحصار أكثر منها، مغتراً بقوته، ومباهياً بما لديه من سلاحٍ وعتاد، وخبرةٍ وتجربةٍ ودراية، فكان المخيم ومن فيه هو الخاسر الأكبر، والمتضرر الأشد، تقتله الأطراف المتحاربة كلها، ولا تبالي بمصيبته، ولا تهب إلى نجدته، ولا تسمح لغيرها بغوثه وإنقاذه، ومساعدته وعلاجه.
يتبع ....

https://www.facebook.com/moustafa.elleddawi
[email protected] بيروت في 16/1/2014