هدأ الصوت الشّاذ، الذي كان مصدره وزير الخارجية الإسرائيلي وزعيم حزب إسرائيل بيتنا المتطرف "أفيغدور ليبرمان" الذي اعتاد على انتقاد ومهاجمة الكل أمامه، سواء السلطة الفلسطينية وعلى رأسها الرئيس "أبومازن" الذي يعتبره لا يرقى إلى مرتبة الشريك الأمثل في العملية السياسية، أو القوي اليسارية والليبرالية في إسرائيل بسبب مواقفها التي تدعو إلى حل القضية الفلسطينية، من خلال تقديم تنازلات، لا سيما وأنّه بدأ منذ تبرئته من الاتهامات التي كانت موجهةً إليه من قِبل القضاء الإسرائيلي، بالتودد والاقتراب أكثر من الولايات المتحدة التي كان لا يطيقها ولا تطيقه أيضاً، وذلك في محاولة منه إلى فتح صفحة جديدة معها، وحتى بالالتفاف على حليفه رئيس الوزراء "بنيامين نتانياهو"، من خلال إعرابه عن تقديره للجهود التي تقوم بها الولايات المتحدة، وإعلانه أيضاً، بأنّه لا يمكنه تجاهل الجهود التي يقوم بها وزير الخارجية الأميركي "جون كيري" لحل الصراع الفلسطيني– الإسرائيلي. وأشار إلى أن على إسرائيل أن تفهم أن أي اقتراح آخر من الممكن أن تتقدم به أيّة جهة من المجتمع الدولي سوف يكون أقل راحة لإسرائيل، وأن إسرائيل لن تتلقَ أي مقترح أفضل من الذي يتقدم به الوزير "كيري"، وذكّر بأن التعاون بين إسرائيل والولايات المتحدة، هو الأساس الذي يجب أن ترتكز عليه سياسة إسرائيل الخارجية دائماً". جاءت أقواله هذه وكأنه ابتلع شيئاً ليس مُسكّناً فقط، بل مُسكتاً أيضاً عن التصريحات التي كانت أخذت أبعاداً موغلة في التشدد والبغض والكراهية المتطرفة، حتى أن الرئيس الإسرائيلي "شمعون بيرس" الذي كان حاضراً، قال له:" لقد خطفت مني دور الحكيم العاقل والمسؤول".
"كيري" لم يهنأ بعضاً من الوقت، بالرغم من زعمه بأن هناك تقدم في العملية السياسية وأن كل من "نتانياهو" و "أبومازن" قد قدّما تنازلات شجاعة ومهمة خلال جولته الأخيرة، حتى سمع بأذنيه ما أذهب أمله وقض مضجعه، حين أعلن وزير الحرب الإسرائيلي "بوغي يعالون" وعن نيّة وقصدٍ بائنين، عن أن "كيري" شخص مهووس والمفاوضات فاشلة. واعتبر بأنه واقعي، والفجوات مازالت كبيرة جداً في المفاوضات، وأوضح بأن "كيري" هو نفسه يعلم أن كل الشهور الفائتة، لم تجرِ خلالها مفاوضات جدّية مع الفلسطينيين، وإنما كانت مضيعة للوقت ومن أجل التفاوض فقط، وأن اتفاق الإطار الذي صاغه، لا يساوي الورقة التي كُتب عليها، معتبراً أن دوره تبشيري ليس أكثر، وهو يبحث عن نوبل، ودعا إلى منحه الجائزة ليترك إسرائيل وشأنها".
جاء ذلك كلّه، في أعقاب شكوك "يعالون" في أن "كيري" سعى إلى التدخل إلى أعماق القيادات العسكرية الإسرائيلية بهدف دعم خطته، من وراء ظهره، ثم عمد إلى الالتقاء بزعيم حزب العمل "يتسحق هرتسوغ" لنفس الهدف، ومن جهةٍ أخرى، ليُعبّر عن الحكومة الإسرائيلية التي في مجملها ترفض أفكاره من الأساس، بسبب أنها لا تتماشى مع التصورات المستقبلية الإسرائيلية، وأن المفاوضات الجارية، هي عبارة عن إهداءات للفلسطينيين بفضل "كيري" ومن دون أن تقبض إسرائيل ثمناً مناسباً بالمقابل.
الانتقادات اللاذعة وردود الفعل القوية التي أعلن بها كل من "كيري" والبيت الأبيض ضد "يعالون" بسبب تصريحاته، التي قصد بها سوء النيّة بشأن دوافع "كيري" وتشويه المقترحات التي يسعى بها لحل النزاع العربي- الإسرائيلي، بصورة لم يتوقعها هو نفسه أو البيت الأبيض، خاصةً وأنها سقطت عمداً من حليف استراتيجي تلتزم الولايات المتحدة بأمنه وسلامة مستقبله في الشرق الأوسط، هذه الانتقادات، اضطرّته إلى تقديم توضيح واعتذار متتاليين وسريعين، حيث تحدث للسفير الأمريكي "دان شابيرو"، وعمل على إقناعه بحل الأزمة الناشئة. وفي الوقت نفسه، اضطر إلى الاستسلام أيضاً رئيسه "نتانياهو" بشأن تقديم توضيحات أخرى في هذا الصدد، حيث تحدث مع مسؤول أميركي رفيع المستوى للالتفات عن تلك التصريحات وعدم جعلها مدار مشكلة.
وبرغم ما توصل "نتانياهو" ووزيره مع الأمريكيين بشأن الأزمة، إلاّ أن ذلك لم يكن كافياً للخروج منها بشكلٍ نهائي، لأنها أحدثت شرخاً أخر في العلاقة بين الرجلين، وبين الولايات المتحدة وإسرائيل بشكلٍ عام، وليس بالإمكان نزعه من الأذهان في وقتٍ قصير، لا سيما وأن هناك تراكمات ليست قليلة ولا هيّنة، اجتاحت العلاقات وجعلتها مهتزّة خلال أحايين كثيرة.
منذ أن تولى الرئيس الأمريكي "باراك أوباما" مقاليد السلطة في الولايات المتحدة في العام 2008، لم تكن إسرائيل مرتاحة تماماً وكما كانت تأمل، بسبب أنه ينتمي إلى الحزب الديمقراطي الذي لا تعتبره إسرائيل مهتماً بنفس الدرجة التي وصل إليها الجمهوريون، كما أن ميوله نحو سياسة اللين والمهادنة بالنسبة إلى القضايا الخارجية، والتي تعتبرها إسرائيل مصيرية بالنسبة لوجودها، وخاصةً بالنسبة إلى الملف النووي الإيراني، إلى جانب أمور متعلقة بالعنصرية، كانت أحدثت نوعاً من الحساسية المفرطة بين إسرائيل والرئاسة الأمريكية الجديدة.
كانت تلك الحساسية قد انعكست بصورة ٍأوضح، منذ ترشح "أوباما" لفترة رئاسية ثانية، حين تبيّن أن "نتانياهو" كان يسعى إلى تغليب منافسه الجمهوري "ميت رومني" أثناء خوض الانتخابات الرئاسية الأمريكية التي جرت في 2012، حيث بادله "أوباما" بنفس الفعل خلال انتخابات الكنيست الأخيرة في يناير، كانون الثاني 2013، حيث هبط رصيد "نتانياهو" الانتخابي بشكلٍ مفاجئ، كاد ينهي مشواره السياسي. وظلت العلاقة فيما ذات البين غير طبيعية، وحتى هذه الفترة، بالرغم من الزيارة التي قام بها "أوباما" في مارس/آذار من العام الفائت، واختص بها إسرائيل.
خلال الأسابيع الأخيرة انكشفت فجوات أعمق بينهما، كان سببها في المقام الأول السلوك الأمريكي باتجاه العملية السياسية، حيث تبادل الطرفان الاتهامات بأن الولايات المتحدة، بدّلت تبعاً لمصالحها، مواقفها التقليدية لصالح الفلسطينيين وعلى حساب الأمن الإسرائيلي، وأن الإسرائيليين يضعون العراقيل أمام أيّة تسوية للقضية الفلسطينية بالمقابل.
في هذه الاثناء يواصلون في إسرائيل العمل، على التحذير من خطوات "كيري" في الفترة القادمة والعمل على ضربها، قبل أن تترسخ على حساب الدولة، وحتى لو احتاج الأمر إلى اعتذارات أخرى. وهناك اتفاق بين قوى اليمين الإسرائيلي، من أن ليس من المنتظر أو المقبول أن تظهر دولة أخرى بين النهر والبحر.
ما هو واضح، وعلى الرغم من ادعاء إثبات الهدوء، وقبول "كيري" للتوضيح والاعتذار، وعزمه على مواصلة مساعيه السياسية كما المعتاد، إلاّ أن "كيري" لن يكون مصمماً كما قبل الأزمة، كما لن تكون اقتراحاته الموسومة في اتفاق الإطار ناجحة، خاصةً في ظل احتمالية تزايد الإيباءات الإسرائيلية للمشاريع الأمريكية المختلفة الداخلة في شأن القضية الفلسطينية، ناهيكم عن الفجوات الشاسعة فيما بين الرؤيتين الفلسطينية والإسرائيلية حول كافة القضايا الجوهرية المعلقة بينهما. وحتى في حال التوقيع على اتفاق الإطار، فإنه سيكون بعد موافقة متدنية جداً مع تحفظات كل طرف على الصياغات المدرجة فيه.
وبالمقابل، فإن الولايات المتحدة ستكون مضطرّة إلى القيام بالإفراج عن نواياها المعروفة منذ المدّة الفائتة، وهي التي تتمثل في التقليل إلى أدنى درجة، من دورها السياسي والدبلوماسي بشأن العملية السياسية برمّتها. وقد بدت البوادر في هذا الاتجاه، على الرغم من إعلان "كيري" مواصلته في مساعيه الدبلوماسية، لا سيما مع ملاحظة أن الرئيس "أوباما" لا يبذل جهوداً ذات قيمة في هذا الصدد، وقد ظل مكتفياً بالنظر من الجانب البعيد، وإن ظهر بين الحين والآخر، كان ظهوره على كل حال ليس مؤثراً. ومن ناحيةٍ أخرى، فإنه لم يمنح "كيري" المزيد من الوقت والصلاحيات، وإن كان خلافاً لأسلافه، الذين لم ترافقهم وفود كبيرة من وزارة الخارجية كالتي ترافقه الآن في مساعيه السياسية الجارية، وبالتالي سوف لن يهتم "أوباما" أو "كيري" أو الولايات المتحدة بعمومها، إذا ما تم تأجيل العملية السياسية إلى سنوات طويلة أخرى.
خانيونس/فلسطين
16/1/2014