السيد عبدالله عيسى اسم لم أسمع به من قبل ، ولم يسبق أن قرأت له أو رأيت وجهه إلا من خلال صورته المرافقة لمقالته التي يرثي فيها حاله وحال دنيا الوطن في الزمن الرديء الذي نعيشه ، وقـد يكون عـدم معرفـتي به قصوراً فيَّ وليس تقصيراً منه ؛ رغـم ممارستي الكتابة الصحفية واحتكاكي بالصحفيين في غـزة منـذ سنة 1996 ، هذا عدا كتاباتي قبل هذا التاريخ في الخارج . وعندما قرأت مقالته (المرثية ) المشفوعة بالآهات والحسرات وبالعتاب المر الذي يصل إلى حـد اللوم الغضوب ، أدركت حجم ما آل إليه أمرنا – نحن الفلسطينيين – من تنوُّع المأساة داخل إطار السلطة الفلسطينية .
وبرغم عُزوفي عن الكتابة الصحفية في دنيا الوطن التي أعتز بها وأختلف معها في النهج والرؤيا ، إلا أني آثرت أن أكتب عن صاحبها ورئيس تحريرها السيد عبدالله عيسى في عيون أخرى بعيداً عن دنيا الوطن ، والشكر موصول للجميع.
ولقد ساءني ما قرأت في مقالة الرجل عن تجاهل سلطتنا الوطنية لدنيا الوطن في فوزها بتصنيفها ضمن أقوى ثمانية مواقع الكترونية انتشاراً في العالم ، والتي وصفتها الصحافة العالمية بإمبراطوريات الإنترنت ، وخصتها بالاهتمام الذي تستحق ، في الوقت الذي انخرست فيه ألسنة السلطة الفلسطينية وصحافتها الملاكي . وكان من الواجب الوطني أن تمتد إليها الأيدي الرسمية والشعبية لمصافحتها وتقديم أجمل التبريكات وأحلى التهاني لها بهذا النجاح الباهر الذي رفع اسم فلسطين على صواري الإنترنت العالمية ، متمنين لها ولغـيرها من المواقع الإخبارية الفلسطينية الأخرى المزيد من الانتصارات والتقدم . ولكننا نعيش في عصر تراجَع فيه المد الفكري ، وطغت عليه حالة جَزْر ثقافي يكاد يعـصف بالأوراق ويقـصف الأقلام ، ويـئـد الفـكر الإبداعي وينفي المبدعـين إلى غـياهب الظلم والظلام . وإذا كنا نستصرخ العالم لفـك الحصار عـنا ، كان الأجدر بنا أن نرفع الحصار عـن أنفسنا ، ونتقي ضربات أعدائنا ، لا أن يضرب بعضنا بعضا .
إنني أخاطب زعماءنا الذين يزعمون أنهم القادة المتنفذون ، وأقول لهم : كنتم ، وطال بكم الزمان ، فشِخْتم وشاخت عقولكم ، واستنفذتم قدراتكم ، ووهنت قواكم ، واستملككم عجزكم ، ومازلتم تملكوننا في الزمن الإضافي الذي لا تُعْرَف نهايتُه ، رغم انتهاء مدة صلاحيتكم ، فماذا بقي لكم ؟ إذن غـيِّـبـوا وجوهكم عنا ، لعل الله يعوض هذا الشعب بأخير منكم ، ويأتي برجال غيركم لا يكونون أمثالكم ، بل يكونون أرقى منكم تـفكيراً ، وأصلب عوداً في مسيرة التحرر الوطني ، وأشد تمسكاً بحق العودة ، وأبعد عن الانقسام والتفريط والتخاذل ، حِراصاً على إنجاح المشروع الوطني القلسطيني .
لقد أخبرنا التاريخ العربي المعاصر- والسلطة الفلسطينية جزء منه – أن لا تحفيز ولا تشجيع للنابهين المبدعين ، بل هو التقزيم والتفشيل للناجحين . وكأني بالحكومات العربية (الديمقراطية جداً) والسلطة إحداها ، لا تبتهج بنجاح شخص ، ولا تهتم بشخص ناجح إلا بعد موته ومواراته تحت التراب ، حينها تنهال عليه ترانيم التراحيم ، وتعديد المناقب والإشادة بالإنجازات العظيمة ، ثم يصدر قرار رئاسي أو أمر ملكي بترقية الفقيد إلى رتبة عسكرية أعلى ، أو رفعه إلى درجة مدنية أرقى ، ثم تتزاحم الأكاليل حول قبره ، وتتدلى من الشاهديْن الأوسمة والنياشين وشهادات التقدير، ويصبح قبره مزاراً وبيته متحفاً يـؤمُّه الزائرون ، ثم يُنسَى . فلماذا لا يكون هذا التقدير وهذا التبجيل في حياة من يستحقونه من الناجحين ، حتى يكون حافزاً لهم على المزيد من العطاء ، ويكون مُنَشِّطاً لغيرهم ممن يطمحون إلى النجاح ؟.
فلا تأسَ يا عبد الله ولا تحزن على كأس كنا قد شربنا منه ماءه فانكسر ، ولا تعتب على أحد من الأقرباء الذين ودُّوا أن يعكروا صفاء البهجة ، ويفسدوا عليك مذاق النجاح ، فهم جميعاً في واديهم يرتعون ، ويكفيك فخراً وتشريفاً أن ألبستك الجاليات الفلسطينية في شتاتها قلادة المحبة التي يتمناها الأخرون ، فلا تنتظر من الحاسدين أن يباركوا لك بهذا الوسام الشعبي الذي لا يدانيه وسام القدس الذي يُزَيِّن جِيد المطربة " أصالة " مهما كان مصدره الرسمي . ولو أن هذا الاستفتاء قد أُجري في داخل فلسطين لأقصَى السيد الرئيس محمود عباس من محبة الناس ومن قلوب الناس ، أو لربما كان ترتيبه رقم مئة وواحد ، ولكنهم في مهاجِرهم بعيدون ، وعن واقعنا لا يعلمون . أما عن الشهيد القائد ياسر عرفات فمكانه الطبيعي في قلوب الناس ، فهو الأول على عرش المحبة ، اعترافا بفضله ووفاء له ، سواء أكان الاستفتاء في داخل فلسطين أم في خارجها .
تبقى لنا كلمة أخيرة يا صاحب الدنيا وما فيها ، إذ نبارك لك ثقة الناس بك وحبها لك ، وكذلك نبارك لدنيا الوطن بهذا النجاح العظيم الذي هو في المقام الأول نجاح فلسطيني يُفرِح كلَّ فلسطيني ، وننتظر من دنيا الوطن أن تكون أكثر تواضعا بعد هذا النجاح ، وأن تنأى بنفسها عن التعالي وتمجيد الأنا الذي لا يزيدها إلا خسارا . كما نتمنى عليها ألاَّ تخشَى على استمراريتها من سطوة العابثين المتنفذين الذين أبلاهم الزمن والآفات الأخرى . ونتوقع منها أن تتحرر من تخوفها الذي يدفعها إلى الاحتراز والتحوط الذي يُفضي بها إلى الإحجام عن نشر المقالات التي تمس هـموم وأوجاع الفلسطينيين وتطلعاتهـم ، رغـم قـناعـتها بصدق وواقـعـية المـوضوعات ووطنيتها ، مجاملة لفلان أو خوفاً من زعل عِلاَّن ، أو بحجة أنَّ لدنيا الوطن سياسة لا تتعداها . فهل سياسة دنيا الوطن تكمن في محاصرة الأقلام التي تُعري المفاوضات وعبثية المفاوضين ، وتكشف النقاب عن أوجه الفساد والمفسدين ؟. وهل هذه السياسة تفرض حظراً على الأقلام بعدم الاقتراب من أسوار رئاسة السلطة التي تحتكر المناصب ، وتنفرد بالقبض على المنظمة وعلى حركة فتح وتتحكم في المال والأعمال ؟. هل هذه السياسة تتطلب تكميم الأفواه ومنعها من الحديث عـن شيوع المجاعة والبطالة والمحسوبية في الوظائف الحكومية ، وعن تزايد أعداد الخريجين الذين يكنسون الشوارع ، أو يبيعون في الأسواق الترمس والبقدونس والجرجير، وعن تقصير الحكومات في مجال الخدمات الطبية والتعليمية ، وعن النقص في الرواتب وقطع الأرزاق ، وتفشي الرشوة والنزاعات الحزبية والأمراض الاجتماعية الأخرى ؟ . أليس من حق الرعية أن تنهض في وجه السلطان تطالبه بالتنحي عن الحكم إذا وجدت فيه ضعفاً أو تراخياً أو تهاوناً في إدارة البلاد وسَـوْس العـباد ؟. إنَّ كل سياسة تتقاطع مع المصلحة الوطنية أو تقوم بالتصدي للمدافعين عن قضايانا الوطنية مرفوضة ، فليغضب من يغضب وليفـرح من يفـرح ، وليكن الشعار : فـلسطين أولاً ، شاء مَن شاء وأبى مَن أبى . هكذا نريد أن تكون صحافتنا الحكومية والأهلية ملتزمة بمد الجسور بينها وبين الشعب ، فتنحاز إليه وتُعَبِّر عـن هـمومه واحتياجاته ، نريد لإعلامنا أن يكون في صف الجماهير لا عليها ، وأن تكون أدواته منارات ترشد السالكين في دروبهم لإيصالهم إلى الحياة الأفضل ؛ لا أداة تطبيل لهذا أو ذاك إرضاء لأمراء الحرب والمال والثراء ، يتقربون بها زُلفَى إلى الكاهن الأعظم وإلى كهنة السلطة والتسلط . وبعد : فمبارك يا دنيا الوطن ، وننتظر نجاحات فلسطينية أخرى للإعلام الألكتروني . والعقبى لوكالة معاً ووكالة قدس نت وصوت فتح الإخباري والكوفية برس والميلاد وسائر الوكالات الإخبارية الفلسطينية التي تستحق أن تنال كل التقدير والاحترام .