يخطئ من يظن أن هناك تنسيقاً أمنياً كلياً وتاماً، صادقاً وأميناً، بين الأجهزة الأمنية المختلفة، وإن كانت تجمعهم جلساتٌ ولقاءات، ويعقدون مؤتمراتٍ وندوات، ويلتقون ويتبادلون المعلومات والملفات، وتنص على تنسيق العمل بينهم المعاهدات والإتفاقات.
فالأجهزة الأمنية التي تقوم على الشك، وتبني عملها على الظن، ولا تثق في أحد، وكل الناس عندها متهمون ومدانون حتى تثبت براءتهم، بل إنهم يبقون تحت الرقابة والرصد ولو ثبتت براءتهم، وقد تعتقلهم احترازياً على ذمتها، ولا يقوى القضاء على أن يفرج عنهم، وهو الذي برأ ذمتهم.
الأجهزة الأمنية لا يثقون ببعضهم، ولا يركنون إلى غيرهم، ولا يتعاونون بصفاءٍ فيما بينهم، ولا يقدم أحدهم ما عنده عربوناً لصداقة، أو وفاءاً لعلاقة، أو محاولةً لإبداء حسن النية، فهذه منطلقات عملهم، وأسس فلسفتهم، وأبجديات أمنهم، فلا يحيدون عنها ثقةً في أحد، ولا يتخلون عنها إيماناً بحسن نية آخر.
ولو كان هناك تنسيق كاملٌ، وتعاونٌ كلي، وتبادلٌ تام في المعلومات والبيانات، وصدقٌ وثقة بين الأجهزة الأمنية المختلفة، لإتحدت وشكلت إطاراً واحداً، ومؤسسة مشتركة، وذلك على المستوى الدولي والوطني، أو كانت لديهم لجانُ تنسيقٍ منظمة، تنسق الجهود، وتتبادل المعلومات، وتوزع البيانات، وتجدد المعطيات، لكنهم على الرغم من ذلك، فإنهم لا يعيبون على أنفسهم هذا الحذر، ولا يلومون بعضهم على الشك والظن، والريبة والتحرز، فهذه من خصوصيات العمل الأمني الذي يقر به العاملون في هذا المجال، يرثونه ويورثونه.
الأجهزة الأمنية لا تكتفي بعدم التنسيق فيما بينها، بل إنها تتجسس على نفسها، وتخفي المعلومات عن بعضها، وتحاول أن تدس لبعضها معلوماتٍ مغلوطة، لتضلل وتعقد عمل الأجهزة الأمنية المنافسة الأخرى، وقد تتعمد إشغالها بالأوهام والأكاذيب، لتبعدها عن الحقائق والأهداف، وقد تزرع في صفوفها عملاء لها، وقد تكلفهم بمهامٍ مضادة، بالإضافة إلى جمع المعلومات، والتعرف على شكل العمل، واتجاه الاهتمام، ومن العملاء المندسين والمزروعين من يتسلمون أعلى المناصب، ومنهم من يرأس الأجهزة الأمنية، ويكون على رأس طواقمها المختلفة.
التجسس والمراقبة والمتابعة والتسجيل والتصوير والتدوين، ضد الآخرين أياً كانوا، أصدقاءً أو أعداءً، من أبناء الوطن أو من خارجه، هي محل اهتمام الأجهزة الأمنية، ومحور عملها الذي لا يهدأ ولا ينتهي، وهي لا تشعر بحرجٍ في عملها، ولا تهتم بردود الفعل إزاء ممارساتها، ولو أدت إلى توترٍ في العلاقات، أو قطعٍ لها أحياناً، إذ أن ما يهمها هو الحصول على المعلومات المطلوبة، بأي طريقةٍ أو وسيلةٍ، مشروعةٍ أو غير مشروعة، فهذا أمرٌ لا يعنيهم كثيراً، ولا تقلقهم نتائجه، ولا تجبرهم على الإقلاع عنه عواقبه.
وقد رأينا مثالاً صارخاً على ذلك، ما قامت به المخابرات المركزية الأمريكية، عندما قامت بالتنصت على هواتف عدد من زعماء وقادة العالم، ومنهم المستشارة الألمانية ميركل، والرئيس الفرنسي هولاند وغيرهما، وهم أقرب الحلفاء لها، وأكثرهم تعاوناً وتنسيقاً معها، ولا توجد بينهم حالة عداءٍ أو خصومة، وعلى الرغم مما ساد علاقات الولايات المتحدة الأمريكية مع حلفائها من توترٍ شديد، إلا أن المخابرات الأمريكية لن تتوب ولن تمتنع عن تكرار تنصتها ومراقبتها، فهي لا تعترف بأنها أخطأت في الفعل، ولكنها تعترف بأنها أخطأت في عدم الثقة والدقة، إلى الدرجة التي انكشف أمرها، وعرفت جريمتها، وهذا الخطأ الفادح بالنسبة لهم، هو محط السؤال، وموضع الحساب.
الأمر نفسه يتكرر في الدولة الوطنية الواحدة، ضمن أجهزتها الأمنية المتعددة، إذ يعمل في الدولة أكثر من جهازٍ أمني، كالأمن العام والداخلي والشرطة والمخابرات العامة والعسكرية وغيرها، فلا تنسيق بينها، ولا تبادل في المعلومات بما يخدم مصالحها، بل إن أساس العلاقة بينهم هي التنافس، ومحاولات التقدم وإثبات الذات، والمعركة بينهم دوماً معركة غير شريفة، تماماً كما هي معركتهم مع المواطنين والأهداف المرصودة، إذ لا محرم بينهم، ولا ممنوع في عملهم، ولا صعب عندهم، بل إنهم يزرعون عملاء لبعضهم البعض، رغم أنهم يعملون في دولةٍ واحدة، وقد يخضعونٍ لآمرٍ أو رئيسٍ واحد.
لا يوجد شئ اسمه تنسيقٌ أمني، أو تبادل معلوماتٍ أمينٍ ودقيق، لكن يوجد تعاونٌ أمني، بين الأجهزة الأمنية ومصادر المعلومات، التي تعتبر أن الأجهزة الأخرى هي مصدر معلومات لا أكثر، أو هم عملاء من الدرجة الأولى، يمكن من خلالهم الحصول على ما يشاؤون من معلومات، ولكنهم يدركون أن الطرف الآخر يلعب معهم نفس اللعبة، وعلى نفس القواعد، فهو يأخذ أو يظن أنه يأخذ أكثر مما يعطي، لكن الذي يعطي يعلم تماماً أنه لا يتبادل المعلومات، بل يتعاون أمنياً، أي أنه ليس أكثر من عميلٍ لدى الجهاز الآخر.
تسعى أجهزة المخابرات كافةً في كل مكان، المعادية والصديقة، والغربية والشرقية، والإسلامية والقومية، إلى جمع أكبر قدرٍ ممكن من المعلومات، وتستخدم كل الطرق الممكنة، البدائية القديمة، والحديثة المتطورة، لجمع المعلومات، وتحديث البيانات.
ولا تستثني من اهتماماتها أبسط المعلومات ولا أخطرها، إذ أن فلسفتها تقوم على أهمية المعلومات أياً كانت، فلا يوجد في قاموسهم معلومة ضارة، أو غير نافعة، بل كل معلومة عندهم مهمة في وقتها وزمانها، فإن لم يكن لها استخدامٌ اليوم، فسيأتي وقتٌ تكون هذه المعلومة التي كانت مهملة، هي المعلومة الذهبية، التي تظهر قيمتها في أوقاتٍ خاصة، ما يتطلب فقط إماطة اللثام عنها، ونفض الغبار الذي علاها، قبل الاستفادة منها، وتوظيفها في مكانها الصحيح، وفي الوقت المناسب، ولا يهمهم مصدرها ولا كيف حصلوا عليها، من جهازٍ أمنيٍ آخر أو من عميلٍ مأجور، المهم أنها معلومة مفيدة وتلزم.
https://www.facebook.com/moustafa.elleddawi
[email protected] بيروت في 31/1/2014