قبل أن تقع الفأس بالرأس

بقلم: هاني المصري

على الفلسطينيين التحرك "قبل أن تقع الفأس بالرأس"، لأن أيّ خطة أو خطوة يقترحها جون كيري لن تكون في مصلحة الفلسطينيين، سواء إذا جاءت على صورة "معاهدة سلام" أو "اتفاق إطار" أو "بلو برنت" (Blueprint)، أو مجرد اتفاق على تمديد المفاوضات. وسيكون من الصعب معارضتها بعد طرحها بشكل رسمي، خصوصًا إذا حصلت على دعم (أوروبي عربي روسي دولي).

كل من يتوهم بما يحاول أن يطرحه كيري، عليه أن يقرأ أو يعيد قراءة ما صرح به مساعده مارتن أنديك لعدد من قادة اليهود الأميركيين، الأمر الذي يوضح مدى الانحياز الأميركي للمصالح الإسرائيليّة.

يمكن تلخيص العوامل التي تدفع بفشل كيري بما يأتي:

الهوة الشاسعة بين الموقفين الإسرائيلي والفلسطيني، وعدم وجود الإرادة الكافية لدى الإدارة الأميركيّة لممارسة الضغط المطلوب على إسرائيل، فالوقت يمضي بسرعة وموعد الانتخابات النصفيّة للكونغرس يقترب، وتأثير القوى المؤيدة لإسرائيل يزداد، ووضع الإدارة الأميركيّة صعب، والحزب الديمقراطي في حالة تراجع.

الخلل في ميزان القوى لصالح إسرائيل يجعلها غير مضطرة لعقد "اتفاق سلام"، حتى لو كان في محصلته يصب في مصلحتها.

عدم وجود احتمال مرتفع باندلاع انتفاضة ثالثة، فبمقدور إسرائيل أن تستمر في الوضع الحالي المناسب لها، كما قال وزير الحرب موشيه يعالون.

خشية إسرائيل من انهيار أي اتفاق مهما كان جيدًا لإسرائيل – في حال التوقيع عليه – في ظل عدم الاستقرار الذي تعيشه المنطقة، فلا توجد أنظمة مستقرة ولها شرعيّة أو حكام أقوياء يضمنون استمراريته. فما الداعي لتقديم "تنازلات" بلا ضمانات لاستمرار المكاسب التي تحققها إسرائيل من أي اتفاق؟. ويدعم هذا التقدير أن نتائج الثورات العربيّة في المدى المباشر ملاءمة لإسرائيل، لكن لا يوجد ما يضمن لإسرائيل أنها ستبقى كذلك على المديين المتوسط والبعيد.

ضعف القيادة الفلسطينيّة، إذ إنها لا تستطيع بسهولة أن تقبل اتفاقًا سيئًا ينتقص من الحقوق الوطنيّة ولا ضمان تمريره في حال الموافقة عليه، وخصوصًا أن شرعيتها ومصداقيتها في تآكل مستمر في ظل الانقسام وعدم تجدد شرعيتها، سواء بالانتخابات أو باعتماد برنامج مقاومة.

وقوع إسرائيل تحت تأثير القوى الأكثر تطرفًا، ما يجعل إمكانيّة توقيع الحكومة لأي اتفاق لا يضمن كليًا المطالب الإسرائيليّة ضعيفًا، وإذا استطاع نتنياهو أن يغير جلده وأن يغير ائتلافه فهو لا يضمن البقاء في الحكم بعد ذلك، وهو لا يزال يتذكر تجربة سقوطه بعد توقيع اتفاق "واي ريفر".

أما العوامل التي تدفع بنجاح كيري، فيمكن تلخيصها بالآتي:

خشية كل الأطراف المعنيّة مباشرة من عواقب الفشل، وخصوصًا لجهة خطر بروز بدائل أخرى وسعي أطراف أخرى لملء الفراغ.

ازدياد القناعة بأن جهود كيري يمكن أن تكون الفرصة الأخيرة أمام ما يسمى "حل الدولتين".

ضعف الوضع العربي، وسعي الدول الفاعلة حاليًا فيه إلى حل القضيّة الفلسطينيّة بأي شكل لكي تتفرغ لمواجهة ما يسمى الخطر الإيراني، ولو من باب التحالف مع إسرائيل ضد إيران.

عدم رغبة الولايات المتحدة الأميركيّة بحصول فشل جديد في المنطقة، لأن حصوله سيكون له تأثير سلبي مضاعف بعد تراجع التأثير الأميركي في مصر وسوريا والعراق، وحتى في دول الخليج.

    حالة الضعف الفلسطيني وقابليّة القيادة للاستجابة للضغط خشية من انهيار السلطة، وحاجة الرئيس "أبو مازن" الذي ارتكز عهده على الاعتدال، وعلى أن سلطته عنصر لدعم الأمن والاستقرار في المنطقة؛ إلى إنهاء حياته السياسيّة بإنجاز، مما قد يدفعه لإبداء مرونة كبيرة، وهذا سيشجع إسرائيل لعدم إضاعة الفرصة التاريخيّة التي من الممكن جدًا ألا تتكرر بفرض حل يحقق جوهر الشروط والإملاءات الأميركيّة والإسرائيليّة.

توفر توافق إقليمي ودولي لحل النزاعات والصراعات في المنطقة بشكل سياسي، وهذا يتطلب نزع فتيل الانفجار الكامن في القضيّة الفلسطينيّة، لأنه إذا انفجر سيأخذ معه كل شيء.

تصميم ومثابرة جون كيري على تحقيق إنجاز سياسي تاريخي يختم به حياته السياسيّة، فهو مهووس بالتوصل إلى حل، ولم يبذل كل هذا الوقت والجهد من أجل إدارة الصراع، فهذا الهدف يمكن تحقيقه من دون كل هذا العناء.

إن المواقف المعلنة للطرفين، لو كانت هي المواقف النهائيّة، أو التي تطرح في الغرف المغلقة لما استمر كيري في جهوده طوال هذه الفترة، ولكنها مواقف تُطرح من قبيل الاستهلاك، ومن أجل الضغط من كل طرف على الطرف الآخر لتحسين شروطه، وعلى الجانب الأميركي لدفعه للضغط على الطرف الآخر لتليين مواقفه.

وما يعزز ذلك أن أطراف اللجنة الرباعيّة في اجتماعها الأخير قدمت الدعم لأفكار كيري، وصرحت كاترين أشتون بأن الاتحاد الأوروبي سيقدم دعمًا غير مسبوق للطرفين في حال التوصل إلى "اتفاق إطار". ويصب في نفس السياق تصريح لمسؤول فلسطيني بيّن فيه: أنه من الصعب على الفسطينيين رفض ما سيقترحه كيري من دون دعم عربي، فكيف إذا كان هناك ضغط وتشجيع عربي على قبول ما يقترحه على أساس أن هذا ما يستطيع الفسطينيون الحصول عليه. وإذا ما رفضوا سيصبح وضعهم أسوأ جرّاء الضغوط والعقوبات الأميركيّة والأوروبيّة والعربيّة.

تبقى نقطة في منتهى الأهميّة، وهي: هل يمكن أن توافق القيادة الفلسطينيّة على حل تصفوي للقضيّة الفلسطينيّة وهي تعلن ليل نهار أنها لن توافق عليه، الجواب على هذا السؤال: إن المطروح الآن ليس حلًا نهائيًّا، وإنما "اتفاق إطار"، وأن هناك محاولات جارية لإيجاد الصياغات والتخريجات التي تمكن كل طرف من الادعاء أنه حقق جزءًا مهما من مطالبه ولم يتنازل عن كل أو جزء من المطالب الأخرى.

 

هناك تسريبات وتصريحات عن أن بعض الصياغات أو الكثير منها، خاصة التي تتعلق بمطالب فلسطينيّة، ستكون غامضة، بينما الاعتراف بـ"يهوديّة" إسرائيل والترتيبات التي تضمن أمنها وتعويض اللاجئين اليهود وتصفية حق العودة فهي واضحة وضوح الشمس، وهناك مخارج أخرى، ومنها: وضع الطرفين أمام خيارات إلزاميّة، مثل على إسرائيل أن تختار بين الأمن أو الاحتفاظ بكل أو الغالبيّة العظمى من المستوطنات، وأن هناك مستوطنات ستؤجر وأخرى ستبقى ضمن "السيادة" الفلسطينيّة؛ وعلى الفلسطينيين كذلك أن يختاروا بين سيادة ناقصة على جزء واسع من الضفة أو سلطات واسعة على كل السكان من دون سيادة، أو كلما تنازلوا في الحقوق يأخذوا مساحات أكبر في الأرض؛ كما أن هناك إمكانيّة لتحفظ كل طرف على النقاط التي لا يوافق عليها، مع إقراره بالالتزام بأن الاتفاق بمجمله هو مرجعيّة المفاوضات اللاحقة؛ أو أن تعرض في الاتفاق النقاط الخلافيّة كوجهات نظر لأصحابها كما هي؛ أو أن يُعرض "اتفاق الإطار" بوصفه وجهة نظر أميركيّة، يتم فيها تمديد المفاوضات إلى ما بعد نيسان من أجل التوصل إلى اتفاق، ما يجعل المعروض عمليًا هو المرجعيّة الجديدة التي يجري العمل على تمريرها تدريجيًا.

إن هذا الوضع الحرج يتطلب تحمل الكل الوطني الفلسطيني لمسؤولياته، وهذا غير ممكن من دون عقد "مؤتمر وطني" فورًا، والشروع في حوار وطني شامل يشارك فيه جميع ممثلي الشعب بمكوناته وتجمعاته المختلفة، من خلال مشاركة أعضاء المجلسين الوطني والتشريعي مع إضافة ممثلين عن الأحزاب والقطاعات غير الممثلة بشكل مناسب، وخصوصًا المرأة والشباب والشتات. وإذا تعذر عقد هذا المؤتمر بسرعة ومشاركة الجميع، فلا مناص من الدعوة إلى عقده بمن حضر.