لقد غيَّب الموت المؤرخ الفلسطيني الكبير/ محمد بن محمد حسن شراب ، الذي كان - رحمه الله وطيب ثراه - في طليعة الرواد الذين تنسّكوا في محراب العلم، وجاهدوا في سبيله، وأسهموا بأفكارهم النيرة، وآرائهم السديدة، وتأصيلاتهم النقدية والنظرية في فتح مغاليق الفكر، وفي رفد ثقافتنا الفلسطينية وإثرائها وإبراز معالمها، فقد كانت فلسطين بالنسبة له هاجساً مؤرقاً ومصدر ألم مستديم، فكرَّسَ لها من جهوده ومؤلفاته الشيء الكثير، وعُني بها خير عناية.
ترك لنا في عالم التاريخ والأدب مدرسة فريدة وتراثاً رائعاً، لا ينهض به إلا رجل يعيش عيشة الصالحين، المنقطعين للعبادة عن طريق العمل، بدأ التأليف عام 1985، ليبدأ طوراً جديداً من أطوار حياته العديدة، هو أحفلها دون شك بالخصب والنماء، ففيها عرف طريقه واهتدى إلى ذاته، وأخصب فكره، حيث بلغت مؤلفاته قرابة الأربعين كتاباً في التاريخ واللغة والأدب، جعل نصفها عن فلسطين: تاريخها ومدنها، واستطاع بفضل مؤلفاته وما كشفت عنه من رسوخ في العلم وثبات في المبدأ؛ مما جعله في مركز الصدارة بين مؤرخي فلسطين عن جدارة وقوة، وقد قرأت له على الأرجح على مدى السنين كل كلمة كتبها، عاش يصل الليل بالنهار والنهار بالليل، هكذا عاش محمد شراب الكاتب مولعاً في التاريخ هائماً في عشق الأدب، يقظاً ساهراً يلتقط كل شاردة وواردة تتعلق بالوطن الجريح، تمتع بقدرة خارقة للعادة في الكتابة في سهولة ودون عناء، يروي أشد البدايات حزناً بأكثر التعابير فرحاً، كان شديد الاعتداد بثقافته وتحصيله، يصف نفسه بقوله: (إني عظيم الإطلاع، كثير القراءة، أحب التدوين، وأقضي حياتي الأخيرة في الكتابة أعيش في أوراقي، وأمضي وقتي بينها)، وجمع إلى جانب روحه الإسلامية نزعة قومية عربية آبية ذلك أن عقله الكبير اتسع لكل شيء.
اختار دمشق في الغوطة الغربية موطناً لإقامته منذ عام 1994 إلى وفاته، وكان حريصاً على مجالس العلم يلقي فيها دروسه على ناشئة من الجيل، ممن حملوا لواء الفكر والثقافة بعد ذلك، وله مجلس بعد فجر الجمعة يشرح فيه من ألفية ابن مالك في النحو، ويقرأ في الكامل للمبرد، وكان يستعرض علمه فيها، ويذهل طلابه بكثرة محفوظه من الشواهد الشعرية، وكانت له اجتهادات مشهورة، ينتقد فيها النحاة القدماء.
كان لي شرف الكتابة عنه والإشادة بدوره في كتابي: (أعلام من جيل الرواد من غزة هاشم منذ أواخر العهد العثماني وحتى القرن العشرين)، الذي صدر عام 2010، في محاولة لعرض سيرة الشعب الفلسطيني، من خلال استعراض سير أبنائه النابغين، حيث كان المؤرخ محمد شراب في طليعة هؤلاء الرواد، الذين يدخلون من أبواب فسيحة وكثيرة، يُستقبل من خلالها بكل ترحاب، وتضفي ملامحه الجادة دائماً على شخصيته ارتياحاً لدى كل من عرفه. فلم يتخذ سبيلاً للثراء والجري وراء زخرف الدنيا على نحو ما تردى فيه نفر من معاصريه.
ولا يفوتني أيها المؤرخ أن أقول لك في هذا المقام ما قاله محمود درويش: (أن سيد الكلمات هو سيد المكان). إن ما أصاب أدبنا وأدباءنا ومؤرخينا هو بعض ما أصاب وطننا، إن مأساة الأدب الفلسطيني المشرد هو جزء من مأساة فلسطين، ولو كان محمد شراب مواطناً مصرياً أو لبنانياً أو عراقياً لأقيمت له التماثيل، وأطلق اسمه على الساحات والميادين، وخصصت له الكراسي الأدبية.. هذه هي حالنا فتحية لك أيها الرجل الرجل.
ولعل من المفيد أن أقدم للقارئ الكريم غيضاً من فيض من حياة المؤرخ محمد شراب حيث ولد في مدينة خان يونس عام 1938، وتخرج في الجامع الأزهر، وفي كلية التربية بجامعة دمشق، وفي معهد الدراسات الإسلامية بالقاهرة (ماجستير) دراسات إسلامية.
عُين مدرساً لمادة اللغة العربية (1964-1994) في مدن: (حائل) و(الدمام) و(المدينة المنورة) بالمملكة العربية السعودية.
أثرى أستاذنا المكتبة الأدبية بالكثير من المؤلفات القيّمة منها (المدينة في العصر الأموي، أخبار الوادي المبارك (العقيق)، المعالم الأثيرة في السنة والسيرة، في أصول التاريخ العربي والإسلامي، المدينة النبوية فجر الإسلام وعصر الراشدين، تميم الداري راهب أهل عصره وعابد أهل فلسطين، الإمام محمد بن شهاب الزهري: عالم الحجاز والشام، أبو عبيدة بن الجراح فاتح القدس والشام، عز الدين القسام شيخ المجاهدين في فلسطين، معجم بلدان فلسطين، معجم أسماء البلدان والقرى الفلسطينية وتفسير معانيها، معجم العشائر الفلسطينية ورجالات الأدب والجهاد، بيت المقدس والمسجد الأقصى، القول المبين في تاريخ القدس وفلسطين، العرب واليهود في التاريخ، قضية ولا صلاح الدين لها، الحديث النبوي مصدر التشريع، الشوارد النحوية، معجم الشواهد الشعرية في الكتب النحوية، معجم شعراء المملكة العربية السعودية، موسوعة بيت المقدس والمسجد الأقصى، سلسلة المدائن الفلسطينية: القدس، حيفا، الخليل، الناصرة، غزة..الخ)
كتب الأستاذ محمد العديد من المقالات، والدراسات الصحفية في ميادين الأدب، واللغة والتاريخ خلال الفترة (1984-1994)، وكانت جل كتاباته في صحيفة المدينة المنورة، وعكاظ، والبلاد، في السعودية، والوطن العمانية، وفي مجلة المنهل السعودي، والحرس الوطني، والفيصل، والشرق، في السعودية، والنور (في لندن). وأفردت له مجلة (المنهل) السعودية باباً خاصاً بعنوان (فلسطيننا). كان عضواً في إتحاد الكتَّاب الفلسطينيين بدمشق.
توفي رحمه الله بعد حياة حافلة بالعطاء في دمشق بسوريا، يوم الخميس 31 تشرين أول/ أكتوبر 2013، وله ابن وبنت وهما: (أحمد، كوثر).