المحكمة الجنائية الدولية تأسست سنة 2002 كأول محكمة قادرة على محاكمة الأفراد المتهمين بجرائم الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب وجرائم الاعتداء. تعمل هذه المحكمة على إتمام الأجهزة القضائية الموجودة في كل بلد، فهي لا تستطيع أن تقوم بدورها القضائي ما لم تبد المحاكم الوطنية رغبتها على التحقيق أو الادعاء ضد تلك القضايا، وهي منظمة دولية دائمة، تسعى إلى وضع حد للثقافة العالمية المتمثلة في الإفلات من العقوبة، فالمحكمة الجنائية الدولية هي أول هيئة قضائية دولية تحظى بولاية عالمية، وبزمن غير محدد، لمحاكمة مجرمي الحرب ومرتكبي الفظائع بحق الإنسانية وجرائم إبادة الجنس البشري.
ومنذ تاريخ 1989 سعت كل من ترينيداد وتوباغو إلى إحياء الفكرة، وذلك باقتراح إنشاء محكمة دائمة للنظر في تجارة المخدرات. وأثناء ذلك تشكلت المحكمة الخاصة بمحاكمة مجرمي الحرب في يوغسلافيا1993، وأخرى خاصة بمحاكمة مجرمي الحرب في 1994، وفي عام 1998 أقرت الجمعية العامة للأمم المتحدة مشروع القرار بأغلبية 120 صوتاً مقابل 7 وامتناع 21 عن التصويت. (الدول السبعة: أمريكا، إسرائيل، الصين، العراق، قطر، ليبيا، اليمن). ومن ثم تحول القانون إلى معاهدة ملزمة مع توقيع الدولة رقم 60 ومصداقتها عليه في 11 أبريل/نيسان 2002.
استغرق إعداد معاهدة المحكمة والمصادقة عليها بضع سنوات، حيث بدأ تداول الفكرة في العام 1993 حين اقترحت لجنة القانون الدولي إعداد معاهدة دولية لهذا الغرض وتمت مناقشة ميثاقها بروما في العام 1998. غير أنّ إبرام المعاهدة وجعلها نافذة لم يكن ممكنا إلا بعد شهر نيسان (ابريل) 2002، حيث تمّت المصادقة عليها من قبل أكثر من ستين دولة، وهو العدد المطلوب، كحد أدني، لجعل المعاهدة نافذة، وقيام المحكمة وممارستها أعمالها قد يردعان القيام بالانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، ويعوّقان محاولات التأخير والمماطلة في النظر إلي الجرائم ضد الإنسانية، ويمنعان الانتقائية في إقامة محاكم دولية مؤقتة وظرفية (يوغسلافيا ورواندا).
فثمة جريمة حرب ضد الإنسانية في فلسطين ارتُكبت في جنين، ولكنها بقيت خارج إطار المساءلة الدولية، وبقي مرتكبوها من قادة وجنود جيش الاحتلال الإسرائيلي في منأى عن أية محاسبة. وللمحكمة 18 قاضياً ينتخبون من الدول التي صادقت على الاتفاقية لفترة 9 سنوات، وهي لا تلغي الأنظمة القضائية الوطنية ولا تتدخل إلا عندما تعجز هذه المحاكم عن التحقيق في الجرائم الخطيرة، غير أنّ سلطاتها تطال حتى رؤساء الدول عندما ترتكب جرائم ضد الإنسانية.
بلغ عدد الدول الموقعة على قانون إنشاء المحكمة 121 دولة حتى 1 يوليو 2012 "الذكرى السنوية العاشرة لتأسيس المحكمة"، وقد تعرضت المحكمة لانتقادات من عدد من الدول منها الصين والهند وأمريكا وروسيا، وهي من الدول التي تمتنع عن التوقيع على ميثاق المحكمة. وتعد المحكمة الجنائية هيئة مستقلة عن الأمم المتحدة، من حيث الموظفين والتمويل.
والمحكمة يقع مقرها بمدينة لاهاي بهولندا، لكنها يمكن أن تعقد جلساتها في أي مكان آخر.
هيكلة المحكمة تتكون المحكمة من:
· رئاسة تتكلف بالتدبير العام للمحكمة، وتضم ثلاثة قضاة ينتخبون من هيئتها القضائية لولاية من ثلاث سنوات.
· شعبة قضائية، وتتكون من 18 قاضيا متخصصا في القانون الجنائي والمسطرة الجنائية والقانون الدولي.
· مكتب للمدعي العام، ويختص بالتحقيق في الاتهامات بالجرائم التي تدخل في اختصاص المحكمة، ويبحث عن الدلائل والوثائق ويفحصها ثم يعرضها على المحكمة، والمدعي العام الحالي هو الأرجنتيني لويس مورينو أوكامبو.
· قسم السجل، ويتابع كل الأمور الإدارية غير القضائية، وينتخب المسؤول عنه من قبل قضاة المحكمة لولاية تمتد خمس سنوات.
اختصاصات المحكمة
الاختصاص الموضوعي : الجرائم التي تخضع لاختصاص المحكمة الجنائية الدولية هي:
· الإبادة الجماعية: وهي أي فعل من الأفعال المحددة في نظام روما (مثل القتل أو التسبب بأذى شديد) ترتكب بقصد إهلاك جماعة قومية أو أثنية أو عرقية أو دينية، بصفتها هذه، إهلاكا كليا أو جزئيا.
· الجرائم ضد الإنسانية: تعني بالتحديد أي فعل من الأفعال المحظورة والمحددة في نظام روما متى ارتكبت في إطار هجوم واسع النطاق أو منهجي موجه ضد أية مجموعة من السكان المدنيين وتتضمن مثل هذه الأَفعال القتل العمد، والإبادة، والاغتصاب، والعبودية الجنسية، والإبعاد أو النقل القسري للسكان، وجريمةِ التفرقة العنصرية وغيرها.
جرائم الحرب: تعني الخروقات الخطيرة لاتفاقيات جنيف 1949 وانتهاكات خطيرة أخرى لقوانين الحرب، متى ارتكبت على نطاق واسع في إطار نزاع مسلح دولي أو داخلي. ومن أبرزها: جرائم العدوان: فيما يتعلق بهذه الجريمة فانه لم يتم تحديد مضمون وأركان جريمة العدوان في النظام الأساسي للمحكمة كباقي الجرائم الأخرى. لذلك فان المحكمة الجنائية الدولية تمارس اختصاصها على هذه الجريمة وقتما يتم إقرار تعريف العدوان، والشروط اللازمة لممارسة المحكمة لهذا الاختصاص.
الاختصاص الإقليمي: خلال مفاوضات نظام روما، حاولت الكثير من الدول جعل المحكمة ذات سلطة عالمية. لكن هذا الاقتراح فشل بسبب معارضة الولايات المتحدة. وتم التوصل إلى تفاهم يقضي بممارسة المحكمة لسلطتها فقط ضمن الظروف المحدودة التالية:
- إذا كان المتهم بارتكاب الجرم مواطناً لإحدى الدول الأعضاء (أو إذا قبلت دولة المتهم بمحاكمته).
- إذا وقع الجرم المزعوم في أراضي دولة عضو في المحكمة (أو إذا سمحت الدولة التي وقع الجرم على أراضيها للمحكمة بالنظر في القضية).
- أو إذا أحيلت القضية للمحكمة من قبل مجلس الأمن.
الاختصاص الزماني: تستطيع المحكمة النظر فقط في القضايا المرتكبة في أو بعد 1 يوليو 2002، وبالنسبة للدول التي انضمت لاحقاً بعد هذا التاريخ، تقوم المحكمة آليا بممارسة سلطتها القضائية في هذه الدول بعد 60 يوم من تاريخ مصادقتها على الاتفاقية.
الاختصاص التكميلي: الغرض من المحكمة أن تكون محكمة ملاذ أخير، فتحقق وتحاكم فقط في حالة فشل المحاكم الوطنية في القيام بذلك. المادة 17 من نظام روما الأساسي تنص على أن القضية ترفض في الحالات التالية:
- إذا كانت تجري التحقيق أو المقاضاة في الدعوى دولة لها اختصاص عليها، ما لم تكن الدولة حقا غير راغبة في الاضطلاع بالتحقيق أو المقاضاة أو غير قادرة على ذلك.
- إذا كانت قد أجرت التحقيق في الدعوى دولة لها اختصاص عليها وقررت الدولة عدم مقاضاة الشخص المعني، ما لم يكن القرار ناتجا عن عدم رغبة الدولة أو عدم قدرتها حقا على المقاضاة.
- إذا كان الشخص المعني قد سبق أن حوكم على السلوك موضوع الشكوى، ولا يكون من الجائز للمحكمة إجراء محاكمة طبقا للفقرة 3 من المادة 20.
- إذا لم تكن الدعوى على درجة كافية من الخطورة تبرر اتخاذ المحكمة إجراء آخر.
الفقرة 3 من المادة 20، تنص على أن الشخص الذي يكون قد حوكم أمام محكمة أخرى عن سلوك يكون محظورا أيضا بموجب المادة 6 أو المادة 7 أو المادة 8 لا يجوز محاكمته أمام المحكمة فيما يتعلق بنفس السلوك إلا إذا كانت الإجراءات في المحكمة الأخرى:
- قد اتخذت لغرض حماية الشخص المعني من المسئولية الجنائية عن جرائم تدخل في اختصاص المحكمة؛
- أو لم تجر بصورة تتسم بالاستقلال أو النزاهة وفقا لأصول المحاكمات المعترف بها بموجب القانون الدولي، أو جرت، في هذه الظروف، على نحو لا يتسق مع النية إلى تقديم الشخص المعني للعدالة.
قضايا أمام المحكمة
تنظر المحكمة في أربع قضايا، ثلاث منها أحالتها عليها دول صادقت على المحكمة، وتتهم أشخاصا بارتكاب جرائم حرب وإبادة وجرائم ضد الإنسانية على أراضيها، وهي الكونغو الديمقراطية وأفريقيا الوسطى وأوغندا، والقضية الرابعة أحالها على المحكمة مجلس الأمن متهما فيها الرئيس السوداني ومسؤولين آخرين بارتكاب جرائم مماثلة في إقليم دارفور غرب السودان. وأول شخص تم تقديمه للمحكمة الجنائية الدولية هو توماس لوبانغا، زعيم إحدى المليشيات المسلحة في جمهورية الكونغو الديمقراطية، وذلك بتهمة ارتكاب جرائم حرب، حيث قيل إنه جند أطفالا قاصرين واستخدمهم في الحرب. وتسعى المحكمة أيضا إلى متابعة قادة مليشيا جيش الرب الأوغندي، المتهمين بدورهم بتجنيد أطفال واستغلالهم في الحروب.
امريكا واسرائيل ومحكمة الجنايات:
اسرائيل لم تصادق على نظام محكمة الجنايات وبالرغم من ذلك فإنها قلقة من إمكانية مقاضاة مستوطنيها وضباطها وجنودها وقادتها أمام المحكمة الجنائية الدولية، لذلك شكّلت طاقما خاصا لتقديم المشورة القضائية لعدد من السياسيين والضباط حول كيفية مواجهة احتمال تقديم دعاوي ضدهم، وبادر الحاكم العسكري مناحيم فنكلشتاين إلي إجراء مداولة خاصة في هيئة أركان الجيش الإسرائيلي حول المحكمة.
واعتبر المحلل العسكري زئيف شيف أنّ محكمة الجنايات الدولية ستكون ساحة صراع دعاوي فلسطينية وعربية ضد إسرائيل، وقال مثلما هو الحال في كل حرب يتوجب أن نعرف كيف نهاجم بسرعة وفي الأماكن الصحيحة، وليس فقط أن نعرف كيف ندافع عن أنفسنا.
وتوقع المدعي العسكري العام أنّ ثمة محاولات ستجري لمحاكمة ضباط إسرائيليين كبار كمجرمي حرب، كما وحذّر المستشار القضائي للحكومة الإسرائيلية الياكيم روبنشتاين من أنّ المحكمة الجنائية الدولية الجديدة يمكن أن تقدم المستوطنين الإسرائيليين إلي المحاكمة، باعتبار أنّ البناء في المستوطنات يعتبر جريمة حرب، لذلك أعلن الناطق بلسان وزارة العدل الإسرائيلية يعقوب غالانتي أنّ إسرائيل لا تنوي تصديق معاهدة إنشاء المحكمة الجنائية الدولية، خشية أن تجد نفسها بين الملاحقين بسبب مواصلة سياسة الاستيطان.
وقال نعتبر أنّ هناك خطرا كبيرا من تسييس المحكمة التي يمكن أن تعتبر وجود الإسرائيليين في المناطق جريمة حرب، وتعارض إسرائيل هذه المحكمة ـ أساساـ بسبب الخشية من تعرّض ضباطها وجنودها للمحاكمة جراء تصرفاتهم تجاه الشعب والأرض في فلسطين المحتلة، غير أنها تركز في معارضتها علي اعتبار القانون الدولي المستوطنات جرائم حرب، ولذلك تخشي من تقديم مستوطنيها أو عسكرييها أو ساستها للمحاكمة الجنائية كأفراد علي أساس البناء في المستوطنات في الضفة الغربية وقطاع غزة أو في هضبة الجولان السورية المحتلة.
ومن سبل مواجهة اسرائيل لمحكمة الجنايات الدولية عدم المصادقة علي المعاهدة أولاً، وتعزيز التعاون مع الولايات المتحدة الأمريكية لعرقلة عمل المحكمة، واللجوء إلي محاكمات صورية للجنود الإسرائيليين الذين يرتكبون جرائم ضد الإنسانية المعذبة في فلسطين لإحباط تقديمهم إلي المحكمة الدولية.
كما أجري المستشار القضائي للحكومة الإسرائيلية اتصالات مع منظمات حقوقية إسرائيلية لإقناعها بعدم الوشاية إلي هيئات دولية بأفعال جيش الاحتلال ضد المواطنين الفلسطينيين. اما الدول العربية قد تقاعست عن المصادقة علي معاهدة المحكمة الجنائية الدولية بالرغم من الفرصة التي توفرها لمحاسبة المجرمين الصهاينة علي مجازرهم المتواصلة ضد الشعب العربي الفلسطيني، وبالرغم من أنّ نصوص المعاهدة لاتتعارض مع دساتير الدول العربية أو مع القضاء الوطني لأي قطر عربي، وكل ما هنالك أنّ الدول العربية مطالبة بإجراء بعض التعديلات التشريعية في قوانينها الجنائية علي ضوء النظام الأساسي للمحكمة الدولية.
أما الولايات المتحدة الأمريكية فقد استنكفت عن المصادقة علي المعاهدة لأنها لاتستطيع التحكم بقراراتها، حيث أنّ نظام المحكمة الجنائية الدولية يجرّدها من سلاح الفيتو الذي تستخدمه في مجلس الأمن الدولي.
ومن المفارقات الملفتة للانتباه أنّ إدارة الرئيس الأمريكي السابق وقّعت المعاهدة لأنّ ذلك، حسب تعبير كلينتون، يقع ضمن تقاليد الريادة الأخلاقية الأمريكية في العالم ، بينما رفضت إدارة الرئيس بوش المصادقة علي المعاهدة بل الانسحاب منها نهائيا والدعوة إلي إنزال العقوبات بالدول التي صادقت عليها !!.
وتعارض الإدارة والقوى المحافظة في الكونغرس المحكمة باعتبارها تشكل تهديدا للسيادة الوطنية . فقد قال وزير الدفاع رامسفيلد لست مقتنعا بأنّ مسؤولين عسكريين أو مدنيين من وزارة الدفاع أو من أية وزارة أخري في الحكومة الأمريكية سيكونون بمنأي عن النشاطات المحتملة لهذه المحكمـة، ويبدو أنّ الرفض الأمريكي لقيام المحكمة يعود لأسباب خاصة هي تفادي أي خطر أو تهديد قد يلحق وكلاء الشبكات الأمريكية والعاملين فيها والمنخرطين في نشاطات وفاعليات سرية أو مكشوفة يمكن أن تطالها المساءلة والملاحقة القضائية الدولية.
كما أنّ النهج العام السائد للإدارة الأمريكية الحالية هو إضعاف النظام الدولي، وتفادي أية التزامات متعددة الأطراف، والتطلع إلي فرض هيمنة أحادية الطرف علي العالم كما تجلي أخيرا في سلسلة المواقف من العديد من الاتفاقيات الدولية، إضافة إلي السياسات الأمريكية المؤيدة للإجرام الصهيوني في فلسطين.