الشيخ والقس

بقلم: أسامه الفرا

بمجرد أن تسير بمحاذاة سور مجرى العيون في مصر القديمة تجذبك تحفة معمارية تحمل طابع الحداثة وهو ما يختلف عما يحيط بها من بقايا الدولة الفاطمية، والزجاج الذي يكسو اشكالها الهندسية المختلفة ينم على ما أنفق في تشييدها، على خلاف المباني الشعبية المجاورة لها التي يتواجد الفقر على مظهرها الخارجي، التحفة المعمارية ليست مقراً لشركة متعددة الجنسيات، انها مستشفى سرطان الأطفال "مستشفى 57357" الذي بات واحداً من أهم وأكبر مستشفيات علاج سرطان الأطفال في العالم، ما يثير الاهتمام بهذا الصرح لا يتعلق فقط بجمال التصميم، ولا بالخدمة المجانية المميزة التي تقدمها لمرضى السرطان من الأطفال، ولا كذلك النتائج الطبية الايجابية التي حققتها خلال السنوات القليلة من عمرها، بل يكمن في الفكرة التي خرجت منها المستشفى إلى حيز الوجود.

والفكرة بدأت من طبيب يعمل في المعهد القومي للأورام توفي بين يديه 13 طفلاً في يوم واحد دون أن يتمكن من تقديم العلاج لهم لقلة الامكانيات، يومها لم يتخذ طريقه إلى منزله بعد أنتهاء فترة عمله، ذهب إلى مطعم اعتاد أن يتواجد فيه الشيخ محمد متولي شعراوي، قص الطبيب على الشيخ مأساة اطفال مرضى السرطان، والذي بدوره تبرع بمبلغ 150 جنيهاً شهرياً متعهداً بأن يلزم أولاده بذلك بعد وفاته، المبلغ رغم تواضعه كان كفيلاً بخلق فكرة التبرعات لمساعدة المرضى، وانتقلت الفكرة من بعدها الفردي إلى العمل الجماعي بإنشاء جمعية أصدقاء معهد الأورام، ومنها بدأت فكرة تشييد مستشفى متخصص عام 1999 اعتمادا على التبرعات والصدقات وأموال الزكاة، وفي عام 2007 تم افتتاح المستشفى، وتبلغ التكلفة التشغيلية له مائتي مليون جنيه يتم جمعها بذات الطريقة دون أن تتحمل الدولة شيئاً من ذلك.

جامعة هارفارد الأميركية، التي تحتل المرتبة الأولى على مستوى جامعات العالم من حيث الأهمية، جاءت هي الأخرى بتبرع من القس جون هارفارد، بل أن مدينة كامبريدج التي تقع فيها الجامعة حملت اسم كامبريدج تيمناً بجامعة كامبريدج البريطانية التي تخرج منها القس هارفارد، ويكفي الجامعة أن سبع رؤساء للولايات المتحدة هم من خريجيها، داخل أروقة الجامعة توجد لوحة تحمل اسماء المتبرعين لها، تتغير أسماء المتبرعين من جنسيات العالم المختلفة سنوياً، في احدى السنوات ضمت القائمة اسم فلسطيني يقيم في الولايات المتحدة الأميركية.

الكثير من رؤوس الأموال في العالم تخلوا عن إدارة مؤسساتهم العملاقة لموظفيهم، فيما كرسوا جهودهم لإنفاق جزء كبير من ثرواتهم في الأعمال الخيرية بعيداً عن مطامح الحياة السياسية والمالية، الصورة الوردية التي تم رسمها لدور رؤوس الأموال الفلسطينية المغتربة بعد توقيع اتفاق اوسلو لم تكن حقيقية، والحقيقة الأكثر إيلاماً أننا افتقدنا روح المبادرة للعمل الجمعي الخلاق في بناء مؤسساتنا الأهلية، ومعها غاب أيضاً العمل الطوعي، لم يعد ضمن المتطلبات الجامعية كما كان في السابق، ماذا لو قرر كل منا التبرع بالقليل من وقته الذي ينفقه في "القيل والقال "لتجسيد فكرة نبيلة على أرض الواقع، فالأعمال الكبيرة تبنى على أعمال تبدو صغيرة، والفكرة الكبيرة تاتي من تراكم أفكار صغيرة.