يوم الأربعاء الماضي، الثاني عشر من فبراير لعام 2014، تربع مارتن شولتز، رئيس برلمان الاتحاد الأوروبي، على سدة الكنيست الإسرائيلي ليلقي من على منصته خطاباً مطولاً. ما حرضني على الكتابة في هذا الموضوع أمر مزعج ومؤلم ومؤسف: إنه موقف الحكومة في غزة من ذلك الخطاب! إنه ذلك الموقف الإيجابي الداعم والمؤيد لخطاب شولتز والسعيد به على الرغم من أنه يطفح سوءاً لنا ولشعبنا ولقضيتنا!!!
إنه لأمر مزعج حقاً أن تسعد الحكومة- وهي حكومة مقاومة- ببعض كلام أطلقه رئيس البرلمان الأوروبي عما وصف بأنه ظلم مفترض واقع على الشعب الفلسطيني! ولكي نزيد هذه النقطة إيضاحاً، فإن من المزعج والمؤسف والمؤلم أن تعجب الحكومة برئيس البرلمان الأوروبي لمجرد إشارته إلى ما سمعه في اليوم السابق من شاب حول التوزيع غير العادل للمياه بين الفلسطينيين والإسرائيليين حيث قال نصاً وحرفاً: "أحد الأسئلة المثيرة جداً التي وجهها شاب إليَّ على الرغم من أنني لم أتمكن من التأكد من الأرقام الصحيحة التي أوردها، هو كالتالي: كيف يمكن أن يجاز لإسرائيلي باستخدام 70 لتراً من المياه يومياً، بينما يجاز للفلسطيني 17 لتراً فقط؟"
ما إن نطق الرجل أمام الكنيست ما كان قد سمعه من شاب فلسطيني عن غياب العدالة في توزيع المياه حتى ثارت ثائرة الكنيست واستبد الغضب بأعضائه حتى أن بعضهم قاطعه، فيما انسحب البعض الآخر من قاعة البرلمان احتجاجاً، فضلاً عن هيجان الكثيرين من المستوى السياسي والقيادي وفي صدارتهم رئيس وزراء الاحتلال الإسرائيلي بنيامين نتنياهو.
استهل الرجل خطابه بالتعبير عن شكره وعرفانه للكنيست الإسرائيلي أن سمح له بالتحدث إليه بلغته الأم (الألمانية)، مضيفاً أنه من دواعي الشرف العظيم له أن يكون في القدس وأن يجل ضيفاً على الكنيست الإسرائيلي الذي وصفه بأنه المؤسسة التي تمثل "القلب النابض بالديمقراطية الإسرائيلية، المؤسسة التي ترمز إلى بلوغ الأمل الذي طالما تعلق به الشعب اليهودي لتحقيق وطن خاص به، بعد قرون مورست فيها الخيانة ضده، حيث تعرض للاضطهاد في جميع أنحاء العالم، وبعد التنكر غير المسبوق لكل القيم الحضارية، وبعد القتل الهمجي البربري لستة ملايين يهودي يما عرف بالمحرقة أو الكارثة والبطولة".
ها هو الرجل يصف الكنيست الإسرائيلي بأنه "القلب النابض بالديمقراطية الإسرائيلية"، فيما هو المقر الذي تقر فيه قوانين العنصرية ضد شعبنا وقضيته وضد أرضه ومقدساته، دون أن نفهم ذلك- ونحن شعب مقاوم وحكومته مقاومة وإعلامه مقاوم- فنذهب إلى كيل المديح لرجل هذا هو رأيه في أعدائنا وهذا هو مديحه لمحتلي أرضنا وقتلة أبناء شعبنا! وهذا هو
وصفه للكنيست الذي فيه تجاز قرارات الاستيطان ويقر فيه إنشاء المستوطنات كما تقر فيه مشاريع التهويد!!
إذاً، ها هو رئيس البرلمان الأوروبي يستنكر المحرقة ويشجب النازية ويبكي ضحاياها من اليهود ويتباكى عليهم!!! وها هو يعلن عن تحمله المسؤولية كأي ألماني آخر لما وصفه بالقتل الجماعي الذي مورس باسم أمته الألمانية! ها هو يعترف ويعلن باسم أمته الألمانية أمام الكنيست الإسرائيلي "أن الشعب اليهودي قد أجبر على تحمل معاناة لا سبيل البتة إلى إصلاحها أو معالجتها، ثم ينحني الرجل إجلالاً لذكرى أولئك الذين قتلوا، ثم يعلن كألماني يحتل منصباً سياسياً دولياً- تعهده بألا تتكرر تلك (المحرقة) وألا ننساها!!!
غير أن أغرب الغريب- على المستوى الفلسطيني- ألا تجد الحكومة في غزة بصفتها حكومة مقاومة، وألا يجد الإعلام الفلسطيني بصفته إعلاماً مقاوماً، في خطاب شولتز أمام الكنيست الإسرائيلي شيئاً غير امتداحه والقبول بما قاله، متجاهلين أموراً كثيرة يعيبهم ويشينهم ألا يشيروا إليها وألا ينتقدوها، ومن ذلك نذكر ما يلي على سبيل المثال لا الحصر:
1) ألا يجدر بنا أن نلتفت باهتمام بالغ إلى وصف شولتز لفلسطين قبل أن يحتلها الصهاينة بأنها كانت صحراء، وأن اليهود عمروها بإقامتهم الكيبوتسات وإحالتهم إياها وهي صحراء إلى مراكز بحوث ومدارس ومصانع وجامعات و.... إلخ، ما يعني أن فلسطين كانت أرضاً لا أصحاب لها فقام اليهود باحتلالها؟!
2) أليس في مكنتنا أن نفهم قول شولتز أمام الكنيست إن الاتحاد الأوروبي يقف داعماً ومؤيداً لإسرائيل التي هي دولة احتلال عسكري، ويصفها بانها دولة استندت على مبادئ الديمقراطية وحكم القانون وأسس الحرية، متناسياً ومتجاهلاً أنها ما قامت إلا على جثث الآلاف المؤلفة من أبناء شعبنا وعلى أنقاض ما يزيد على خمسمائة من مدنهم وقراهم؟!
3) ألا يعيبنا وألا يشيننا- ونحن شعب مقاوم تقوده حكومة مقاومة- أن نمتدح شولتز فنقول فيه شعراً وهو الذي يصف- بكل وقاحة- ما يعانيه المستوطنون من آلام كثيرة وكبيرة في مستوطنة اسديروت وفي منطقة عسقلان جراء ما وصفه بالقصف الصاروخي، متجاهلاً الاحتلال العسكري الإسرائيلي على نحو عام، ومتجاهلاً أن الحصار الإسرائيلي لقطاع غزة هو في حقيقته عمل عدواني وإجرامي، مبرراً هذا الحصار بأنه رد على هجمات الفلسطينيين ضد المدنيين الإسرائيليين، ومعلناً في الوقت نفسه- وبأسلوبه التبريري المنحاز للاحتلال الإسرائيلي ضدنا- بأنه يتفهم هذا الحصار ويدرك أسبابه ويبررها، مكتفياً بقوله: "إن الحصار خانق ويدفع المتطرفين إلى توظيفه فيؤدي ذلك إلى تقويض أمن إسرائيل بدلاً من صيانته والمحافظة عليه، دون أن يملك الجرأة ليقول صراحةً ودون مواربة: "إنّ على إسرائيل أن ترفع الحصار عن قطاع غزة فوراً، وإلا فإن الاتحاد الأوروبي سوف .... بدلاً من قوله: "إن الاتحاد الأوروبي لا يفكر أبداً في مقاطعة إسرائيل ولا يفكر في فرض عقوبات عليها"؟!!
4) كيف نمتدح سياسياً في حجم شولتز، رئيس برلمان الاتحاد الأوروبي، لمجرد نقله سؤالاً وجهه له شاب فلسطيني حول انعدام العدالة في توزيع المياه بين الفلسطينيين والإسرائيليين، مع تأكيده على أنه لم يتحقق من الأرقام الواردة في السؤال، متسائلاً عما إذا كان ما قاله الشاب الفلسطيني صحيحاً؟! كيف نمتدح هذا السياسي الكبير في موقعه لمجرد سؤال نقله وتساءل عن مدى صحته، فيما لا يعطي هذا السياسي الكبير أي أهمية لما أتى به من أوصاف مجيدة وماجدة لصهاينة صاروا في نظره- وهو السياسي الكبير- رموزاً مخلدين لما سفكوه من دماء شعبنا ولما مارسوه ضدنا من وحشيه وتنكيل وتكسير عظام وإبعاد وقنص وقصف وهمجية؟! كيف لنا أن نمتدح- نحن المعذبين المحتلين المستلبة أرضنا وحقوقنا- من يمتدح مناحيم بيغين الذي يصفه بالشجاع وهو الذي ارتكب أبشع المجازر؟! كيف لنا أن نمتدح شولتز وهو يعبر عن إعجابه بإسحق رابين الذي اشتهر بابتداع سياسة تكسير العظام خلال انتفاضة 1987، وبوصفه بيرس الذي ارتكب مجزرة قانا عام 1996 بأنه يستحق التقدير والإعجاب، وكذلك بوصفه شارون الذي ارتكب مجزرة صبرا وشاتيلا بأنه هو الآخر محل إعجابه وتقديره؟!
5) كيف لنا أن نمتدح شولتز الذي أكد في الكنيست الإسرائيلي أنه لا نية للاتحاد الأوروبي في مقاطعة إسرائيل، مؤكداً في الوقت نفسه على أن إسرائيل هي الشريك التجاري الأهم للاتحاد الأوروبي وأن تعاونها البحثي والتقني والعلمي مع الاتحاد الأوروبي هو أساس القوة للمستقبل الاقتصادي لإسرائيل والاتحاد الأوروبي معاً؟! ألا نستطيع أن نفهم من هذا الكلام أن شولتز – مناباً عن الاتحاد الأوروبي بصفته رئيساً لبرلمانه- يريد أن يقول لإسرائيل: إلى الأمام يا إسرائيل في كل ما أنت فيه وكل ما أنت إليه ضد شعبنا وضد قضيته؟! ألا نستطيع أن نفهم ذلك ونحن شعب مقاوم وعلى الدوام يقاوم، وتقوده حكومة تعلن على الدوام أنها تقاوم ولا تساوم؟!
6) كيف يمكن لنا أيضاً- حكومةً مقاومة وإعلاماً مقاوماً- أن نفهم ثورة الكنيست وانسحاب أعضائه وغضب نتنياهو على رئيس البرلمان الأوروبي بأنه دعم للحق الفلسطيني في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي فنسعد بذلك وتتعالى أصواتنا دفاعاً عن شولتز وتعلن حكومتنا المقاومة عن ترحيبها بتصريحاته التي وصفتها بالإيجابية واستهجانها- على لسان مستشار رئيسها للشؤون الخارجية- للحملة التي تعرض لها من اليمين الإسرائيلي المتطرف وفي صدارتهم رئيس الوزراء نتنياهو، كما نطالب العالم بتقليده والحذو حذوه في امتلاك جرأة مثل جرأته وشجاعة كشجاعته؟!
7) كيف يمكن لنا أن نمتدح شولتز- وهو رئيس البرمان الأوروبي- إذ يكيل بمكيالين وهو يقول "إن التصرف بمسؤولية معناه بالنسبة لنا الاعتراف التام والواضح بحق إسرائيل في الوجود وحق الشعب اليهودي في العيش بأمن وسلام وأن الاتحاد الأوروبي سوف يظل على الدوام كتفاً إلى كتف مع إسرائيل، بينما لا يقول مثل هذا فيما يتصل بشعب فلسطين؟!
8) كيف يمكن لنا- ونحن شعب مقاوم وحكومة مقاومة وإعلام مقاوم- أن نمتدح شولتز الذي يستنكر، بأقوى الألفاظ والكلمات، الهجمات الصاروخية على المدنيين الإسرائيليين، بينما لا يستنكر الاحتلال العسكري الإسرائيلي لفلسطين، ولا يستنكر تصرف دولة إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني، كما لا يستنكر الحصار الإسرائيلي القاتل لقطاع غزة؟!
9) كيف تمتدح حكومتنا شولتز الذي يقول أمام الكنيست "إننا نعرف أن الشعب الإسرائيلي يريد السلام"، بينما لا يقول الشيء نفسه عن الشعب الفلسطيني الذي طرد من أرض وطنه ويتوق إلى السلام ويعشقه وقدم في سبيله تنازلات أتبعها بتنازلات لم يحقق حتى اللحظة قبالتها شيئاً؟!
وبعد، فهل أدركنا يا ترى- ونحن شعب مقاوم وحكومة مقاومة وإعلام مقاوم- أبعاد ثورة الكنيست وغضب رئيس الوزراء نتنياهو على شولتز لمجرد أنه أشار- على نحو جزافي اعتباطي- إلى ظلم مفترض يقع على الشعب الفلسطيني جراء توزيع تعوزه العدالة في المياه مع الإسرائيليين؟! وهل نستطيع أن نفهم المعنى المقصود من هذه الثورة وهذا الغضب دون أن يشفع للرجل دفاعه الكبير عن دولة إسرائيل المعطر بإعجابه وتقديره لرموزها من القتلة والمجرمين، كما لم يشفع له تأكيده اليقيني أمام الكنيست الإسرائيلي أن الاتحاد الأوروبي ليس في نيته- البتة- أن يفرض عقوبات على إسرائيل أو يقاطعها، بل إنه يسعى إلى المزيد من التعاون وتحفيز الشراكة معها وتطويرها؟!
أما آخر الكلام، فأين مثقفونا وأكاديميونا وسياسيونا من هذا الخطاب ومن رد الفعل السعيد والمؤسف لحكومتنا المقاومة ولإعلامنا المقاوم؟! وألا تجد حكومتنا- وهي حكومة مقاومة- شيئاً غير المدح لرجل ما استحق إلا القدح؟!
بقلم: الدكتور/ أيوب عثمان
كاتب وأكاديمي فلسطيني
جامعة الأزهر بغزة