شكلت اللجنة المركزيّة لحركة فتح لجنة لدراسة الوضع القانوني لاستحداث منصب نائب الرئيس، وأعلن توفيق الطيراوي بأنه طرح الفكرة منذ عدة أشهر، فيما قال محمد المدني بأنه لا حاجة لها، وأن القرار لدراسة المسألة قانونيًّا وليس لتنفيذها.
فكرة "نائب الرئيس" طرحت لأول مرة من بعض أعضاء المجلس التشريعي وغيرهم بُعيد انتخاب الرئيس في العام 2005، ورحب أبو مازن بالفكرة، وطالب بأن تكون هناك صلاحياتٌ منصوصٌ عليها في القانون الأساسي لنائب الرئيس، ولكن الأمر لم يحدث.
عندما انتهت الفترة الرئاسيّة، وبعدما أعلن أبو مازن عن رغبته بعدم الترشح لولاية ثانيّة، وخصوصًا بعد تأجيل تقرير غولدستون، وإعرابه عن رغبته في الاستقالة؛ طرحت فكرة "نائب الرئيس" أكثر من مرة من روحي فتوح وغيره من قيادات "فتح". كما طرحت الفكرة في آخر اجتماع للمجلس الثوري، وكان الرئيس يوافق عليها في كل مرة، وأحيانًا كانت تتداول أسماء، من أبرزها مروان البرغوثي، ولكنها لم تنفذ.
في محاولة الإجابة عن الأسئلة التي تطرحها هذه الفكرة، أبدأ بالإشارة إلى أن عدة مراكز أبحاث ومجموعات تفكير إستراتيجي "ثنك تانك"، أميركيّة وإسرائيليّة وأوروبيّة، وحتى عربيّة؛ بدأت منذ فترة بتنشيط البحث عن بديل أبو مازن. والآن هذه المسألة يطرحها ويبحث فيها قناصل الدول المهمة في المنطقة، وذلك لعدة أسباب، منها: أن أبو مازن قارب الثمانين عامًا؛ وحديث المصالحة وإجراء انتخابات بعد ستة أشهر على تشكيل الحكومة ارتفع مؤخرًا، والمفاوضات تدور في حلقة مفرغة وتأكل معها الأرض والحقوق وما تبقى من وحدة؛ والأهم أن هناك حملة هستيريّة إسرائيليّة ضد أبو مازن تتصاعد، وحاول أن يوظفها كيري عندما تحدّث عن أن مصيره سيكون مثل مصير ياسر عرفات في حال لم يتخذ القرارات الشجاعة، ويقدم التنازلات المطلوبة لتحقيق السلام.
في هذا السياق أخشى أن تستخدم مسألة "نائب الرئيس" من أجل الضغط على أبو مازن لإخضاعه تمامًا، مثلما استخدمت مسألة استحداث منصب "رئيس الوزراء" من أجل تحقيق ما سبق وأعلنه الرئيس الأميركي السابق جورج بوش الابن، ونفّذه بمساعدة إسرائيليّة وغيرها، حول ضرورة إيجاد قيادة فلسطينيّة جديدة مختلفة عن قيادة ياسر عرفات، وملتزمة بمحاربة الإرهاب حربًا لا هوادة فيها.
لا أقصد بما سبق أن كل من يَطرَح فكرة "نائب الرئيس" يَصبُّ في سياق الضغط الأميركي الإسرائيلي، فهناك من يطرحها لأنها ضروريّة لمأسسة الرئاسة، وتوزيع السلطات، والاستعداد لاحتمال غياب أو تغييب الرئيس لسبب أو لآخر، خصوصًا أن شغور منصب الرئيس لن ينتج عنه انتقال سلس للسلطة، مثلما حصل بعد اغتيال ياسر عرفات. ففي عهد ياسر عرفات كان معروفًا من هو الشخص الثاني، صحيح أنه لم يعين رسميًا، وإنما كان أبو عمار يطلب من أبو مازن حضور اجتماعات الحكومة، وعندما يغادر الاجتماع لسبب أو لآخر يطلب منه رئاسة الاجتماع، وكان وقتها أمين سر اللجنة التنفيذيّة، ومقبول عربيًا وإسرائيليًا وأميركيًا ودوليًا. وكان المجلس التشريعي منعقدًا بحيث تولى رئيسه روحي فتوح الرئاسة لمدة ستين يومًا لحين إجراء الانتخابات الرئاسيّة.
اليوم إذا غاب الرئيس في ظل الانقسام المدمر والمتغيرات العاصفة لا أحد يعرف من الشخص الثاني في "فتح" والسلطة والمنظمة، وهناك ازدحام في التنافس على هذا الموقع، لذا هناك ضرورة ملحة لاختيار نائب أو أكثر للرئيس (يمكن اختيار نائب لرئيس السلطة، وآخر للمنظمة، وثالث لفتح). ولكن ضمن أي سياق، فهذا هو المهم.
إن هناك ما هو أكثر أهميّة من تعيين نائب للرئيس، وهو إفشال الجهود الأميركيّة الإسرائيليّة الرامية لتصفية القضيّة الفلسطينيّة لا حلها، وأن الأولويّة يجب أن تكون لتوحيد الفلسطينيين وراء قيادة واحدة على أساس إستراتيجيات قادرة على إحباط المخططات التصفويّة، التي لا يجب أن ينام أحد على وسادة من الأوهام بأنها لا تملك فرصة للنجاح.
فالضعف والانقسام الفلسطيني، والتشظي العربي، وارتهان السلطة للمساعدات والالتزامات، وفقدان الاتجاه، ووصول الإستراتيجيات المختلفة إلى طريق مسدود، في ظل عدم وجود بديل عملي عن المفاوضات الثنائيّة لعدم توفر الإرادة لإيجاده، وليس لتعذر وجوده؛ يجعل هناك خطر جدي بنجاح جهود كيري، إن لم يكن اليوم فغدًا، وإن لم يكن مرة واحدة فعلى دفعات.
إذا توفرت الإرادة لتحقيق الوحدة واعتماد إستراتيجيات قادرة على الانتصار في ظل معطيات ومتغيرات محليّة وعربيّة وإقليميّة وأميركيّة ودوليّة فيها ما يساعد ويمكن البناء عليه، وليس كلها تصب في اتجاه عكسي؛ تجعل إمكانيّة الصمود والمقاومة المثمرة ممكنة، وليس هدفًا بعيد المنال. في هذه الحالة يمكن إجراء الانتخابات لحل مشكلة نائب الرئيس وغيرها، وإذا تعذر ذلك يمكن التئام المجلس التشريعي بالرغم من انتهاء فترته القانونيّة، (فالضرورات تبيح المحظورات، ولا شيء قانونيًا أصلًا حتى يتذرع البعض بالقانون في ظل صدور مراسيم رئاسيّة لها قوة القانون)، أو تشكيل مجلس تأسيسي يضم أعضاء المجلسين المركزي والتشريعي وشخصيات تضاف إليه تمثل الشتات والمرأة والشباب وتخويله بقيادة المرحلة.
تأسيسًا على ما سبق، يمكن أن تكون خطوة تعيين "نائب الرئيس" خطوة في الاتجاه الصحيح، ويمكن أن تكون انحرافًا عما يجب عمله، فإذا تمت في سياق إعادة بناء وإصلاح وتجديد ودمقرطة المؤسسات الفلسطينيّة أولا في المنظمة، وبعد ذلك أو بشكل متواز ومتزامن في السلطة، وضمن بلورة إستراتيجيات كفاحيّة قادرة على توحيد الشعب بمختلف مكوناته السياسيّة ومواجهة التحديات والمخاطر التي تهدد القضيّة الفلسطينيّة؛ فهي حق يراد به حق.
إما إذا كانت مجرد خطوة معزولة أو بالونات اختبار أو لعبة للتسلية يراد إشغال الناس بها، وبالتحديد الطامعين والمتنافسين، بين فترة وأخرى، أو تستخدم لمجرد المناكفة، أو ظهرت لمواجهة صعود دحلان لاعتبارات إقليميّة، ومحليّة، وفتحاويّة، وفتحاويّة - حمساويّة أو للضغط على أبو مازن عن طريق التلويح له بأن عمليّة استبداله قد بدأت، فهي في هذه الحالة حق يراد به باطل.
أخيرًا، تبقى نقطة لا بد من الحديث عنها بصراحة، وهي: لماذا لم نرَ فكرة "نائب الرئيس" تتحقق بالرغم من أن الرئيس كان يوافق عليها في كل مرة؟ السبب أن النظام السياسي الفلسطيني متأثر كثيرًا بالأنظمة السياسيّة العربيّة، خصوصًا في مصر وسوريا، حيث يستأثر الرئيس بكل السلطات من دون حسيب أو رقيب أو مشاركة، لا من حزبه، ولا من مجلس نواب تمثيلي، ولا قضاء مستقل، ولا إعلام حر.
وما يزيد الطين بلة أن مؤسسات المنظمة أكثر من شبه مشلولة، والمجلس التشريعي غائب ومغيب، ما يعني أن الأمر يحتاج لأكثر بكثير من تعيين نائب للرئيس، فالمؤسسة والعمل الجماعي والبرامج المشتركة غائبة.
إن هذا الواقع وضع في يد الرئيس سلطات وصلاحيات استثنائيّة لم يحصل على مثلها الزعيم التاريخي ياسر عرفات، وهذا الواقع قوّى الرئيس محليًا وعربيًا ودوليًا، خصوصًا بعد وقوع الانقسام وفقدان الحكومة ورئيسها للصلاحيات المنصوص عليها في القانون الأساسي. فالرئيس أقوى بكثير بسبب عدم وجود بديل متفق عليه، ما يجعل ما يريده يأخذه الجميع في الحسبان. فالرئيس إذا أراد أن يرفض ما سيطرحه عليه كيري سيكون رفضه نهائيًا، وإذا وافق سيضع "فتح" والمنظمة والفلسطينيين أمام الموافقة أو انسحابه، وما يعنيه ذلك من انهيار السلطة، وربما النظام السياسي الفلسطيني كله، وربما يطرح الرئيس وينفذ فكرة "نائب الرئيس" إذا فشلت المفاوضات، أو إذا توصلت إلى اتفاق غير مقبول فلسطينيًا.
نحن بحاجة إلى أكثر من مسألة "نائب رئيس". فليست هنا الوردة ولا يجب أن نرقص هنا.