منذ إستئناف العملية التفاوضية بين الفلسطينيين وإسرائيل في نهاية تموز 2013 حتى الآن إنشغلت النخبة السياسية الفلسطينية بمراقبة ما يجرى في هذه المفاوضات إعتماداً على معلومات وتسريبات تتناقلتها بعض الصحف الإسرائيلية، وخلقت حالة من الشعور لدى الكثير منهم أن هناك صفقة قادمة يجري التحضير لإخراجها في وقت قريب، أقل ما يقال عنها أنها تشمل تنازلاً عن حق العودة للاجئين الفلسطينيين من خلال توطينهم في أماكن أخرى وإنشاء صندوق لتعويضهم، إضافة لمسائل متعلقة بالأمن في منطقة الأغوار ومحطات للإنذار المبكر وتواجد لقوات حلف الناتو لفترات زمنية يتفق عليها الجانبان، ومسألة تبادلية الأراضي والحفاظ على الكتل الإستيطانية الكبيرة.
سيناريوهات عديدة تناقلتها الصحف الإسرائيلية وتلقفتها أقلام النخبة الفلسطينية ولم يتم نفيها على لسان أي مسؤول فلسطيني، بل جرى تعزيزها ببعض التصريحات للرئيس أبو مازن وتحديداً بعد لقائه مع 250 طالب إسرائيلي في رام الله منتصف فبراير الحالي، حينما طمأن هذه المجموعة من الاسرائيليين أنه "لن يتم إغراق اسرائيل بخمسة ملايين لاجئ فلسطيني"، وفي تصريحات سابقة وافق على تواجد قوات تابعة لحلف الناتو في مناطق تطالب إسرائيل بتواجد أمني فيها، موقفان جرى الإفصاح عنهما علناً وخارج سياسة السرية التي أتفق عليها مع جون كيري وأطراف العملية التفاوضية، هدفها تحضير الرأي العام الفلسطيني لتقبل الأسوأ، أكثر منها كرسائل سلام ومحبة للشارع الإسرائيلي، وهي إختبار جديد تعود أبو مازن على وضع الشعب الفلسطيني أمامه بعد موقعة "صفد" التي تجرأ الرئيس على خوضها أمام القناة الثانية الإسرائيلية في نوفمبر 2012 الماضي، وفي حينها تعهد أيضاً ألا تكون هناك انتفاضة ثالثة ضد الاحتلال ما دام رئيسًا للسلطة، وقال إنه ما دام في السلطة "فلن تكون هناك أبدا انتفاضة مسلحة ثالثة ضد إسرائيل". مما حذى بالرئيس الإسرائيلي "شيمعون بيرس" في أكتوبر 2013 للدفاع عن أبو مازن ونقله إلى مرتبة شريك في عملية السلام !
قبل إستئناف المفاوضات كان أبو مازن قد أسقط كل شروط العودة إليها، أهمها شرط وقف النشاط الإستيطاني، متجاهلاً تكرار الوقوع في خطيئة هذا المحظور الذي تم التنبيه له بعد إتفاق أوسلو حتى الآن، ولم يلتفت إلى موقف الحركة السياسية الفلسطينية وشركائه في منظمة التحرير التي طالبته بعدم العودة إلى المفاوضات في ظل معطيات دولية وعربية وفلسطينية لن تسفر عن نتائج في صالح الموقف الفلسطيني، وقبل كل ذلك موقف الشعب الفلسطيني الرافض لإستئناف المفاوضات بعد تجربة عقدين ذاق خلالها الأمرين وتعرض فيهما لعمليات نهب إستيطاني لم تشهد لها الضفة الغربية مثيل، تحولت جرائها إلى معازل حقيقية تفصل بينها مئات الحواجز الإسرائيلية وجدار فصل عنصري، إضافة إلى الجرائم اليومية التي يمارسها الاحتلال كان أبرزها حربين على قطاع غزة خلفت كارثة يعاني منها أكثر من مليون وثماني مئة ألف فلسطيني.
المراقب لتفاصيل ما يجري على الساحة الفلسطينية منذ أن جاء الرئيس عباس على رأس الهرم السياسي الفلسطيني وسلسلة الأزمات التي وضع فيها الشعب الفلسطيني، يستنتج أن هناك شيء ما يلوح في الأفق، قد تكون صفقة سياسية مع إسرائيل، أو إنفجار شعبي يطيح بالرئيس بعد سلسلة مواقف سياسية لم يجرؤ أي فلسطيني التحدث بها حتى في زمن مشروع "روابط القرى" عام 1978م التي شكلتها إسرائيل لإجهاض المشروع الوطني الفلسطيني، فقد أحدث تآكل تدريجي خطير في الموقف السياسي الفلسطيني مستفيداً في حالة الأزمات المتلاحقة التي أدخل الشعب الفلسطيني إليها بشكل منظم وتراكمي بهدف إشاعة اليأس في صفوف الشعب الفلسطيني وتمرير ما يمكن تمريره.
يتذاكى بعض أطراف السلطة الفلسطينية وأنصار فكرة التفاوض المستمر تحت أي ظرف وفي أي وقت وحتى النهاية، يتذاكى هؤلاء بتصريحات تربط ما بين فشل المفاوضات وأزمة مالية خانقة قد تمر بها السلطة الفلسطينية، المقصود بهذا التذاكي هو ترهيب أبناء الشعب الفلسطيني ووضعهم ما بين خيار القبول بنتائج المفاوضات أي كانت وبين الموت جوعاً بعد فشل المفاوضات، في نفس الوقت يخرج فريق آخر بفزاعة أن الرئيس عباس في خطر جراء تهديدات إسرائيلية قد تمس حياته، وأنه يتعرض لمؤامرة للنيل من صموده أمام الضغوط الأمريكية والإسرائيلية، كأن المقصود من هذا التذاكي إسكات الشارع الفلسطيني عن كل ما يجري بإعتبار أن أي تظاهرة ضد المفاوضات عملية نقد للرئيس تصب في خانة الهجوم الإسرائيلي ضد الرئيس وتنال من صموده في معركة المفاوضات !
في واقع الأمر كانت السلطة قبل إستئناف المفاوضات قد تعرضت لأزمات مالية وكانت على حافة الإنهيار، وقامت إسرائيل بإحتجاز أموال للسلطة وتوقفت بعض عمليات التمويل قبل الذهاب إلى الأمم المتحدة، ولكن قبل لحظة الإنهيار هبّ العالم لنجدتها وأفرج عن أموال السلطة بناءاً على طلب أمريكي وأوروبي وإستجابة سريعة من إسرائيل، فالإنهيار يعني الكثير لدى المجتمع الدولي، أقل ما يعنيه هو عودة إسرائيل لممارسة مهامها الأمنية التي كانت تقوم داخل المناطق الفلسطينية وتحملها لتبعات التواجد الدائم بين الفلسطينيين كقوة إحتلال، وأكثر ما يعنيه هو عودة المواجهة الشاملة مع الشعب الفلسطيني وفتح المجال أمام إحتمالات غير محمودة عند إسرائيل.
لن تنهار السلطة الفلسطينية، ولن يسمح المجتمع الدولي بإنهيارها إذا ما فشلت المفاوضات، فلا زالت تؤدي وظائفها المرسومة لها، ولن تجد إسرائيل رئيساً للفلسطينيين أفضل من رئيس يعلن ليل نهار أن التنسيق الأمني وصل إلى مستويات متقدمة بلغت 100% وأن خيار المواجهة معها لن يكون طالما بقي على رأس النظام السياسي الفلسطيني، فقط إحتمال إنهيارها يكون بفعل ثورة شعبية محتملة في ظل ما وصلت إليه الحالة الفلسطينية من وضع مأزوم وقيادة عاجزة ومخجلة.
الرئيس أبو مازن أسقط من حساباته أن قضية اللاجئين الفلسطينيين هي جوهر الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وأن حلم العودة لن يسقط ضحية أزمة مالية تتعرض لها السلطة الفلسطينية، وأن اللاجئين الفلسطينيين لن يتوهوا في عتمة غزة المستمرة منذ سبع سنوات، ولا في معاركه الشخصية مع معارضيه داخل حركة فتح، بل هناك حالة وعي كبيرة لدى الشارع الفلسطيني بما يحاك جلسات كيري التفاوضية ستمنعه من الإقدام على تلك الصفقة الكارثة، ستمنعه عوائل الشهداء والجرحى والمعتقلين، وآلاف المناضلين المؤمنين بأن الأوطان لا تستبدل بمشاريع إقتصادية، وأن تضحيات شعبنا على مدار عقود من الصمود والكفاح الوطني كانت من أجل الأرض والكرامة وليست من أجل التوطين في كندا أو استراليا.