أصبح واضحاً بعد كل ما جري من مداولات إعلامية، وعن تسريبات محاضر بعض الجلسات التفاوضية أن القضية الأهم في صراع الشعب الفلسطيني مع الإحتلال – قضية اللاجئين الفلسطينيين قد أصبحت محل توافق فلسطيني إسرائيلي لحصرها في موضوع التعويض والتوطين، وأن هناك حرصاً من الرئيس عباس على "عدم إغراق إسرائيل بخمسة ملايين لاجئ فلسطيني"، كخطوة تعزز الإتجاه نحو الإعتراف بيهودية الدولة الإسرائيلية، تتبعها خطوة تطهيرها من أي وجود عربي فلسطيني، حيث تمكن إسرائيل من إختيار طريقة ما للتخلص من هذا الوجود العربي المقلق على مستقبل يهودية الدولة، تبادلية السكان العرب المستوطنين مثلاً أو ترانسفير جماعي مسكوت عنه دولياً بحق حوالي 20% من سكان دولة إسرائيل العرب.
"مارتن إنديك" المبعوث الأمريكي للمفاوضات طمأن قادة اليهود قبل عدة أيام على مسألة يهودية الدولة، مؤكداً أن الدولة الفلسطينية لن تكون في حدود العام 1967 كاملة وأن إسرائيل ستضمن سيطرة على 80% من المستوطنين داخل الضفة الغربية، وأن هناك ترتيبات أمنية تستجيب للحاجات الأمنية الإسرائيلية تحديداً في منطقة الأغوار.
اللافت أن بشائر "مارتن إنديك" للقادة اليهود قد شملت على بشرى جديدة تتضمن تعويضاً "للاجئين اليهود" عن سنوات معاناتهم وتهجيرهم من مناطق سكنهم الأصلية، وهذا الغريب العجيب الذي ستسفر عنه مفاوضات السلام التي يصرّ الرئيس عباس على خوضها حتى النهاية ومهما كلف الأمر.
لم يعد الأمر مخيفاً أو مخجلاً لفريق المفاوضات إستمراره في هذا المنحدر التفريطي، ولا فرصة للرهان على صمود المفاوض الفلسطيني بعد أن سلك طريق المفاوضات بعيداً عن أي مرجعيات وطنية وعربية لتلك المفاوضات، وغياب أي إطار سياسي يحدد ما ستؤول إليه نتائج العملية التفاوضية، أي ما كان يعرف فلسطينيناً "بالثوابت الوطنية" أو " الخطوط الحمراء"، فلم تعد منظمة التحرير ومشروع السلام الذي تبنته في وثائقها مرجعاً لتلك المفاوضات، ولا جامعة الدول العربية ومبادرتها التي أطلقها ملك السعودية عبد الله بن عبد العزيز عام 2002، ولا حتى في شكلها المعدل في العام 2013 الذي قبلت فيه بمسألة تبادلية الأراضي، فالرئيس عباس لم تعد لديه أية مرجعيات سوى وزير خارجية أمريكا جون كيري وأمير قطر كحاضنة عربية وحيدة بعد أن خسر معظم علاقاته مع العرب وفي المقدمة منهم الأشقاء في مصر.
يدرك الرئيس عباس أنه في حالة من الضعف الشديد تمنعه من التوقيع على أي إتفاق إطار سياسي ، ويدرك أيضاً أنه يغامر بحياته السياسية في حال موافقته على إتفاق سياسي منقوص على غرار ما يروج له دون أي نفي فلسطيني، وقد حاول أن يستقوي بمواقف بعض الدول العربية وإشراكها في صفقة الاستسلام التي يطرحها كيري، وفشل في ذلك، ولعلّ موقف المملكة الأردنية أحد أبرز مؤشرات رفض العرب لما يحاك في جلسات المفاوضة السرية.
أبو مازن يفاوض وظهره مكشوف، لا حلفاء وطنيين، ولا شركاء عرب، حتى فريق المفاوضات الفلسطيني بدا في أكثر من موقف وكأنه ينفض يده من تلك المقصلة، ليتركه وحيداً يغامر بمستقبل شعبه وقضيته الوطنية، لهذا لا غرابة في قيامه بالطلب من جون كيري أثناء لقائه في باريس قبل أيام بعرض وثيقته "للسلام" على مجلس الأمن الدولي لإقرارها ومن ثم فرضها على أطراف الصراع !
خطورة المطلب العباسي من جون كيري لا تكمن في كونه يريد إقراراً عالمياً "بوثيقة إستسلام" يتم إخراجها على شكل إتفاق سلام أو إطار أو تسوية أي كان إسم هذا العبث، بل في أنه بهذه الخطوة سيكون قد وجه ضربة قاضية لكل المرجعيات الدولية التي إستند إليها الجانب الفلسطيني، وإسقاط لكل القرارات الدولية المتعلقة بالقضية الفلسطينية وفي مقدمتها القرار "194" الذي يؤكد على حق اللاجئين الفلسطينيين بالعودة إلى ديارهم مع التعويض، وحينها يضع الفلسطينيين والعرب في مواجهة المجتمع الدولي بدل المواجهة مع إسرائيل والإنحياز الأمريكي لموقفها.
متاهة المفاوضات وما يحاك في جلساتها أصبحت حكراً على الرئيس وبعض مستشاريه، حتى اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير لا تعلم أكثر مما يعرفه المواطن الفلسطيني العادي، ومع كل هذا فهذه الهيئة التي يجري التفاوض بإسمها وتقف عاجزة عن تعطيل هذه المهزلة، وما يثير الدهشة أن يخرج بعض القيادات الفلسطينية "ببدعة" دعونا نحكم على النتائج ! ، وكأن كل ما يجري من تصريحات على لسان المفاوض الفلسطيني، وعلى لسان الرئيس شخصياً، وعن جون كيري ومارتن إنديك لا يعدّ جزء من النتائج، أليس القبول بفكرة التبادلية نتائج؟ أليس تصريحات الرئيس في حول اللاجئين أكثر من مرة نتائج؟ أليس المفاوضات تحت زيادة التوسع الاستيطاني نتائج ؟ أليس تهويد القدس والإعتداءات الإسرائيلية تحت غطاء المفاوضات نتائج ؟
سواء نجحت أو فشلت تلك المهزلة التفاوضية، فإن إسرائيل تستفيد منها مع الوقت، وستعتمد كل ما دار فيها وثائق مرجعيات يجري العودة لها كبديل لقرارات الشرعية الدولية ولكل مبادرات وأفكار السلام التي طرحها العرب، فهذا التآكل التدريجي في الموقف الفلسطيني يجب أن يتوقف، فقد إقترب كثيراً من حالة الإستسلام.
[email protected]