تبنى الدولة المدنية على أسس الديموقراطية ومبدأ فصل السلطات. ويكون نظام العمل فيها مبنيا على مبدأ تقسيم العمل، حيث أنه يسهل إدارة شؤون الدولة ويجنبها مشاكل تداخل صلاحيات العمل ومشاكل عدم الفصل بين السلطات. إنّ هذه المبادئ الأساسية هي التي تحكم فيما إذا كانت الدولة المدنية منظمة أو أنها أوليغارشية، لا سبيل لتفعيل مؤسسات الدولة فيها. وبالحديث عن مبدأ تقسيم العمل وتحديد الصلاحيات، تقع فيه واقعات كثيرة ما لم يحدد القانون الأساسي تفاصيل الصلاحيات. حيث أن الوقوع في مشاكل تحديد الصلاحيات أساسه عدم وجود لائحة تحددها أو عدم وجود أداة فعالة لتحديدها. وتوضح المواد 107،108 من الباب السادس للقانون الأساسي الفلسطيني قواعد عامة في اختصاصات النيابة العامة والنائب العام. على أي حال، سنجد أن الحال في الغيمة الفلسطينية العدلية فيه شيء من التداخل الذي يطرح مشكلة حديثة الظهور قديمة الوجود.
في حديثنا مع مدير مكتب رئيس مجلس القضاء الأعلى، الأستاذ محمد عبد الرحمن، تعرفنا أكثر على اشكالية حدثت مؤخرا وسببها بشكل عام هو عدم تحديد صلاحيات فلسفة التوظيف ونقل الموظفين.
بداية الاشكالية
صدر أمر بتغيير المدير العام، الأستاذ أمير أبو العمرين، من وزير العدل على أساس ملف استقصائي في وزارته يوضح مجريات العمل وينصح بتغيير المدير العام. واحتج على هذا القرار موظفي الدائرة جميعهم بناء على أن المدير السابق أعلم بطبيعة العمل من المدير الجديد مما سيوفر الوقت والجهد على الدائرة وعلى الوزارة ككل، كما أن المدير السابق-حسب قول الأستاذ عبد الرحمن- قد أنجز انجازات محترمة جدا ويشهد له بالصلاح والفعالية في أداؤه واخلاصه في عمله. فرأى الموظفون أنه ومن أجل المصلحة العامة، يجب أن يتقدموا بكتاب الى الوزير يشرحون فيه طبيعة الأمر. ولكن في تلك الفترة كان الوزير مسافرا، بالتالي لجأ الموظفون الى المجلس التشريعي.
أين المشكلة؟
تكمن المشكلة في عدم معرفة الموظف من هو المسؤول عن توظيفه أو نقله، هل هو مجلس القضاء الأعلى أم وزارة العدل. والمفترض مهنيا أن يقوم مجلس القضاء الأعلى بتحديد صلاحيات موظفي الدوائر وتعيينهم ونقلهم. أما في ظل غياب منظومة واضحة تحدد طبيعة التوظيف وصلاحيات الوزير وصلاحيات مجلس القضاء الأعلى، فإنه من الصعب جدا على الموظفين أن يجدوا المرجعية التامة في حال واجهوا مشاكل- كهذه المشكلة مثلا. فالنزاع على الصلاحيات بين الوزارة ومجلس القضاء الأعلى –وهو فعليا ليس جديد- لم يتم حله لأسباب عدة أحدها الظرف السياسي العائم في الجسد الفلسطيني.
وهذه المشكلة قد حدثت مسبقا في العام 2003 فيما يتعلق أيضا بصلاحيات وزارة العدل وتدخلها في شؤون مجلس القضاء الأعلى.
خطوات نحو الحل
ان وعي الموظفين وخبرتهم في مجالهم وحرصهم على المصلحة العامة دعاهم لاتخاذ الإجراءات المهنية أولا للنظر في قرار نقل النائب العام، والاجراءات الودية ثانيا. بعدما توجه موظفو الدائرة بكتاب الى الوزير ولم يكن متواجد، بالتالي لجأ الموظفون الى التوجه > كمواطنين يغارون على المصلحة العامة < الى المجلس التشريعي- على الرغم من أن هذا لا يقع ضمن التدرج المهني لطرح القضية.
تفاقم المشكلة
بعد استلام وزير العدل الجديد، عطا الله أبو السبح، منصبه في الوزارة أمر بتفقد أحوال الوزارة، فقام مدير مكتبه بعمل تقرير عن سير العمل في الوزارة وضمن التقرير كانت صخرة تفاقم المشكلة.
صدر بناء على هذا التقرير قرار نقل ل21 موظف من مراكزهم الى مكاتب صغيرة، فمثلا نقل مدير مكتب رئيس مجلس القضاء الأعلى- الأستاذ محمد عبد الرحمن- الى موظف صغير في محكمة صلح جباليا!
على ما يبدو أن الوزير امتعض من توجه الموظفين الى المجلس التشريعي، أو أنه غرر به ووقع على القرارات التي جهزها مدير المكتب دون النظر اليه بغية الاصلاح وكفى.
ردة فعل الموظفين المنقولين
لم ينفذ الموظفين القرار ات الصادرة بحقهم من قبل وزير العدل، معللين أنها جاءت ظلما لهم وليست من صلاحيات الوزير نقلهم الا لسبب تنظر فيه الأطراف العليا. كما أنهم اتهموا بالاختلاس والرشوة دون أدنى دليل على ذلك، ولكن على ما يبدو من وجهة نظر بعض الموظفين المنقولين أن الوزير علم أنه غرر به وأنه لا يدري ما كان في ملف التوصية الذي قدمه مدير المكتب بالتالي بحث في امكانية وجود تهم اختلاس على الموظفين.
لم يرق الموظفين ما حصل لهم، بالتالي دعوا الى اجتماع مجلس القضاء الأعلى مع أعضاء الجمعية العمومية للتوجه برفع قضية على الوزير الحالي. وهكذا، كسبوا القضية. وبناء عليها تقرر ايقاف قرار الوزير لحين بيان أسباب النقل.
في ظل هذه الظروف، أضرب موظفي المحاكم ساعتين عن العمل من أجل القضية، ما استثار نفوس أعضاء المجلس التشريعي ودعاهم للتفاوض مع الموظفين لسحب القضية المرفوعة على الوزير. واتفقوا على أن يطبق قرار الوزير لمدة يومين فقط! وتسحب القضية ويعود الموظف لنفس درجته السابقة قبل قرار النقل. ومن ثم أرسل الوزير للموظفين المنقولين للحديث معهم وأعطاهم مهام في مكاتب أخرى ولكن بنفس الدرجة الوظيفية.
جزء آخر من المشكلة
يوجد في فلسفة التوظيف ما يسمى بالتكليف. وهو عملية وضع موظف في مكان معين يعمل وظيفة يمكن أن تكون أكبر من العبء الذي يمكن تحمله براتب موظف عادي! وهذا ما حصل- على علمنا- مع مدير مكتب رئيس مجلس القضاء الأعلى. حيث أنه يشغل منصب حساس جدا ولكن براتب موظف عادي، بناء على أنه كلّف تكليف وليس توظيف مهني مركزي.
من يملك الحل؟
في ظل عدم وجود تحديد واضح لطبيعة العلاقة بين مجلس القضاء الأعلى ووزارة العدل، نجد استغلال واضح للمنصب أو على الأقل سوء إدارة العملية الإدارية. وتحديد الصلاحيات أيضا يغطي جزء كبير من مشكلة التوظيف والنقل. نرى هنا أن الموظفين الذين صدر بهم قرارات النقل توجهوا بالتسلسل المهني والديموقراطي الواضح والشفاف لحل مشكلتهم ولكن في النهاية اصطدموا بجدار تضارب الصلاحيات ما أدى لتدخل المجلس التشريعي في الأمر، وهو ما ليس له داعٍ في حال وجود تحديد واضح لصلاحيات كل من مجلس القضاء الأعلى ووزارة العدل.
واضطر الموظفين في نهاية المطاف لقبول الحل الودي أو غير المهني بما يحفظ لهم وظائفهم ويحفظ ماء وجه الوزارة بعد ما صدر منها من قرارات بها من الخطأ ما بها. ورضوا أيضا بالحل لأنهم يعلمون أنهم مكلّفين بهذه المهام، فأية وظيفة مكتبية ستكون في نهاية المطاف بنفس الراتب الشهري!
يبقى الحل مبهما لحين وضوح معالم المستقبل الجيوسياسي الفلسطيني، ولحين الاجتماع على تجديد مواد القانون الأساسي الفلسطيني بما يتناسب مع الشؤون المدنية المعاصرة للمجتمع الفلسطيني. ان أهمية طرح هذه المشكلة هي جزء لا يتجزأ من السبيل لحل صدام الصلاحيات خاصة في مناصب ذات اهمية بالغة في الدولة من شأنها الطعن الشديد في استقرار الهيكلية القضائية.